الصين تنزع القناع عن العلامات التجارية الأمريكية الفاخرة

بات العالم يراقب الاشتباك بين التنين الصيني ورجل الكاوبوي الأمريكي، كما لو كان يشاهد مباراة، لكن الحقيقة أن الجميع بدأ يُدرك أن لا أحد بريء. فكلاهما يحاولان ابتلاع المستهلك، والسيطرة على الأسواق العالمية، يتبادلان اللكمات، بينما نحن، المستهلكون، الشعوب، الاقتصاديات الصغيرة، نعدّ الضربات ونحسب الأضرار.
وبينما تستمر الحرب التجارية بين القطبين، تتكشّف الحقيقة الكبرى: أشهر العلامات التجارية الأمريكية والغربية الفاخرة، صينية الصنع، فمنذ اطلاق ترامب تصريحاته المثيرة للجدل حول فرض رسوم جمركية على معظم دول العالم حتى شملت”أنتاركتيكا” الخالية من السكان، ظننا حينها أن العقوبة وُجهت للعالم بأسره، لكن الحقيقة أن رصاصات الكاوبوي كانت موجهة بدقة نحو بكين، نحو ذاك التنين الذي لم يعد يكتفي بنفث دخانه، بل بدأ بابتلاع الكاوبوي الأمريكي مع قبعته وسرج حصانه.
اقرأ أيضا
list of 4 items1970.. يوميات عبد الناصر عام الرحيل
خلافات ترامب ونتنياهو: هل تدشّن مرحلة جديدة بين أمريكا وإسرائيل؟
تفاكر.. من وعي الأزمة إلى أزمة الوعي (فيديو)
فالمعركة لم تتوقف عند حدود التعرفة الجمركية، بل تحولت إلى مصارعة علنية في ساحة الاقتصاد العالمي، حيث كل طرف يحاول تكسير عظام الآخر أمام الجماهير. التنين الصيني قرر خلع قناع العلامات التجارية الغربية، كاشفًا أن كثيرًا من “الفخامة الأمريكية” لا تعدو كونها صناعة صينية بامتياز، تُخاط في شنغهاي وتُباع في نيويورك بسعر يجعل المستهلكين يشعرون أنهم اشتروا قطعة من الحلم الأمريكي، بينما هم في الحقيقة اقتنوا غلافًا فاخرًا لحلم صُنع في الشرق.
أمريكا تبيع الوهم
وبينما كان ترامب يهدد ويتوعد بالمزيد من التعقيدات أمام التجارة الصينية وآخرها فرض رسوم إضافية على السفن الصينية التي ترسو في أمريكا، ويقوم نائبه بوصف الصينيين بالفلاحين، كان الصينيون يجلسون باسترخاء لاحتساء كوب من الشاي، وهم يعدون العدة لرد صادم، ليس بالكلمات ولا التهديدات، بل بالأرقام والشواهد ليكشفوا للعالم أن المُنتج الأمريكي ليس إلا مجرد شعار وضع على منتج صيني متين. ليقلب المشهد، وتتغير الأدوار.
فمن خلال منصتهم الأشهر “تيك توك”، التي يتابعها الملايين حول العالم، تدفقت مئات الفيديوهات من قلب مصانع الصين، تكشف الفجوة الكبيرة بين تكاليف انتاج العلامات الأمريكية والغربية الفاخرة التي تنتج في الصين وأسعار بيعها الفلكية في أمريكا والغرب، على سبيل المثال، حقيبة تُصنع في الصين وتكلف 1500 دولار، بينما تُباع في أمريكا بـ32 ألف دولار، وربما تصل المبالغ إلى أرقام فلكية على بعض السلع تتعدى 160 ألف دولار، بينما تبلغ تكلفة إنتاجها الحقيقة 3000 دولار.
ضربة ذكية
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل قدم المصنعون الصينيون للمستهلكين فرصة شراء هذه المنتجات الراقية مباشرة من المصنع، بدون العلامة التجارية الأمريكية أو الغربية، فكانت تلك الفيديوهات أقوى من أي تعريف جمركي. بل هي في الحقيقة ضربة ذكية في الخاصرة الاقتصادية الأمريكية، لعبت باستخدام سلاح الصناعة، مع ابتسامة بوذية هادئة تخفي ما وراءها.
وفي غمرة الشد والجذب هذه بين بكين وواشنطن وما تبعها من سجالات وتصريحات اتسمت بالتحدي أحياناً والاستهزاء أحياناً أخرى، لفتني ما كشفه مصنعون صينيون بأن الفستان الذي ارتدته احدى المتحدثات باسم البيت الأبيض هو صناعة صينية، والمفارقة العجيبة في ذلك أن المتحدثة كانت تعيد وتكرر تهديدات ترامب بأن الصين هي من ستخضع في آخر المطاف وهي من ستسلم الراية البيضاء لأمريكا، ليتحول الموضوع إلى مادة ساخرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وهنا، بات السؤال الأكثر إلحاحاً : ما الذي يصنع القيمة؟ وهل وجود علامة تجارية لشركة فاخرة على أي منتج هو ما يعطيه قيمته أم أن جودة السلعة ومتانتها هي الأهم بغض النظر عن أين تصنع؟.
هذا السؤال بالتحديد هو ما دفع العديد من الأشخاص الذين كانوا ضحايا المنتجات الأمريكية والغربية الفاخرة التي اشتروها بالآلاف، للإقدام على تمزيقها وتدميرها عبر فيديوهات بثت على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أدركوا أنهم كانوا ضحايا لتلك الشركات التي كانت تبيعهم الوهم.
في الحقيقة، لم يكن الأمر مجرد تجارة، بل كان حيلة متقنة خدعت بها تلك الشركات المستهلكين – لا سيما – الأثرياء المهووسين بالماركات والعديد من مشاهير الفن حول العالم، ليدركوا متأخرين أن الكاوبوي باع للعالم شعاراً، والتنين هو من خاط الثوب.
تصعيد بلا سقف
لعل السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم: متي سينتهي التصعيد والتهديد بين التنين والكاوبوي؟ وما هي نتائج هذه الحرب التجارية التي لم تشهد تصعيدا عبر تاريخها كما الآن؟
في الوقع لا أحد يمكن أن يجيب على هذا السؤال بسهولة، خاصة وأن ما يجري بات يتصاعد بلا سقف، لكن المؤكد ووفقاً لمؤشرات العديد من التقارير الإقتصادية أن أمريكا هي أول المتضررين، إذ إن بكين تمتلك مفاتيح اللعبة بحكمة وهي قادرة فعلياً على اتخاذ إجراءات من شأنها الإضرار بالاقتصاد الأمريكي وهو ما يدفعها إلى التصرف بروية وحكمة.
مركز إنتاج لا غنى عنه
لا أحد يمكن أن ينكر الدور المحوري الذي تلعبه الصين في سلاسل التوريد العالمية، خاصة بالنسبة للشركات الأمريكية الكبرى، فبفضل بنيتها الصناعية الهائلة، تُنتج الصين النسبة الأكبر من الهواتف الذكية، والملابس، والأجهزة الإلكترونية، والأثاث، والآلات، التي تُسوّق لصالح شركات أمريكية حول العالم، والأهم هو عملية إتقان الصنع وجودته مع الحفاظ على أسعار مناسبة، وهذا بذاته يشكل تحدياً كبيراً أمام الشركات الأمريكية إذا ما نقلت مصانعها خارج الصين.
دعونا ننظر فقط الى حجم التبادل التجاري بين القطبين الاقتصاديين الأكبر في العالم ( أمريكا والصين) لنجد أنه خلال 2024، لم تتجاوز الصادرات الأمريكية إلى الصين حاجز 143.5 مليار دولار، مقابل 439 مليار دولار هي الصادرات الصينية للولايات المتحدة، ما يؤكد أن الاعتماد الأمريكي على الأيدي الصينية لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة وليس من مصلحة الشركات الأمريكية الوقوع في فخ ترامب، ذاك الذي يعتمد سياسة خلق الفوضى واختلاق الأزمات.
وما لا يدركه ترامب أو إدارته أيضاً أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين علاقة معقدة ومتشابكة إلى حدٍّ يصعب معه الانفكاك، وقد بات من شبه المستحيل أن يتمكن ترامب، خلال فترة رئاسته التي لا تتجاوز أربع سنوات، من تفكيك هذا الترابط وتشابك المصالح الاقتصادية بين البلدين.