“ماركات” تحت المجهر: من يصنع الثراء؟ ومن يبيعه؟

الصين تكشف أنها من تصنع "الماركات" العالمية وبأسعار زهيدة (منصات التواصل)

مع بدايات عام 2025، سادت حالة من التفاؤل، على وقع وعود الإدارة الأمريكية الجديدة بإنهاء الحروب، وتقليص حدة الصراعات السياسية والعسكرية التي أثقلت كاهل الاقتصاد العالمي.

لكن ذلك التفاؤل سرعان ما تبدد مع انقضاء الربع الأول من العام، إذ تجددت الصدامات بين العملاقين الاقتصاديين، الصين والولايات المتحدة الأمريكية، لتشتعل إحدى أكثر الجبهات حساسية في العلاقات الدولية، الحرب التجارية، التي لم تعد مجرد نزاع على الرسوم الجمركية أو تفوق اقتصادي، بل باتت حربًا رمزية تمس صورة الدول ونفوذها الاقتصادي والثقافي في العالم.

فى هذا المشهد المتقلب، لم تستخدم الصين صواريخها ولا منصات إطلاقها، بل لجأت إلى سلاح جديد: “الكاميرا”.

من داخل المصانع.. إلى عقول المستهلكين

فمنذ أيام قليلة، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي موجة من مقاطع “الفيديو” التي بثها منتجون صينيون، بدا واضحًا أن هدفهم لم يكن تجاريًا بحتًا بل كان سياسيًا بامتياز. في تلك المقاطع، تظهر مصانع يُقال إنها تزوّد أشهر العلامات التجارية مثل “هيرمس”، و”لويس فيتون”، و”أديداس” و”لولوليمون” وغيرها من الأسماء العالمية بمنتجاتها.

الصوت القادم من خلف “الكاميرا” بدأ واثقًا من نفسه، وهو يوجّه رسالة للعالم بنبرة من التحدي: “ها هي الحقائب التي تدفعون عشرات الآلاف من الدولارات لشرائها، تُصنع هنا بجزء بسيط من تلك التكلفة. وإذا كنتم لا تكترثون للشعار بل للفخامة والجودة نفسها فاشتروا منا”، بل ذهب هؤلاء المنتجون إلى أبعد من ذلك، مقدمين حزمة من التسهيلات الذكية التي تُغري المستهلك وتطمئنه في آن واحد. من أبرزها: الشحن السريع إلى أي مكان في العالم، ما يسمح بوصول المنتجات خلال أيام معدودة، وتغطية كاملة لرسوم الاستيراد والضرائب الجمركية، بحيث يتحمّل البائع تلك التكاليف، مما يجعل السعر النهائي أكثر تنافسية مقارنة بـ”الماركات” الأصلية.

كما وفّروا خيارات دفع ميسّرة، وخدمات دعم فني وتسويقي بلغات متعددة تناسب مختلف الأسواق العالمية، إلى جانب سياسات استرجاع مرنة تضاهي، بل وقد تتفوق أحيانًا، على تلك التي تقدمها دور الأزياء الفاخرة.

هذا التصعيد الإعلامي لم يكن عابرًا، بل شكّل صفعة علنية للغرب، ليس بسبب الأرقام الفاضحة فقط، بل لأنها هزت المفهوم الغربي للفخامة من جذوره.

حين يصبح الشعار أهم من المنتج

في أحد أكثر المقاطع تداولًا، يُعرض أحد المنتجين نموذجًا لحقيبة “بيركين” الشهيرة من دار “هيرمس”، تلك الحقيبة التي طالما اعتُبرت رمزًا للثروة والتميّز، التي قد يصل سعرها في المتاجر الرسمية إلى 38 ألف دولار، وقد يتجاوز ذلك في بعض الإصدارات النادرة، لكن المفاجأة التي فجّرها “الفيديو” أن تكلفة إنتاجها في مصانع يُقال إنها تزوّد العلامات نفسها أو تقلّدها بدقة، لا تتجاوز 1400 دولار، ويتم بيعها عبر وسطاء مقابل 1000 دولار فقط.

ولم تكن “بيركين” استثناء، فـ”الفيديوهات” المتداولة سلطت الضوء أيضًا على علامات أخرى، مثل شركة الملابس الرياضية “لولوليمون”، حيث صرّح أحد منتجي الملابس الرياضية في الصين أن القميص الذي تبيعه “لولوليمون” مقابل 100 دولار، لا تتجاوز تكلفة تصنيعه بالجودة نفسها، 6 دولارات فقط.

غير أن المسألة تتجاوز “الفرق في السعر” إلى ما هو أعمق، إنها الفجوة بين “القيمة الحقيقية” و”القيمة المتخيلة”، فما يدفعه المستهلك في حقيبة فاخرة لا يذهب فقط إلى الجلد أو الحياكة أو التصميم، بل إلى ما يُعرف في الاقتصاد بـ”التسعير النفسي”، وهي استراتيجية تسويقية تهدف إلى التأثير في سلوك المستهلك وقرارته الشرائية من خلال طريقة عرض السعر، وليس عبر القيمة الحقيقة للمنتج. تلك هي الآلية التي بنت بها دور الأزياء العالمية إمبراطورياتها: خلق شعورًا بالنخبوية، ثم تسعير الحلم نفسه.

بمعنى آخر، ما يُباع ليس مجرد منتج جلدي أنيق، بل وهم مُغلف بالترف، مؤسس على سردية ثقافية عمرها عقود، والصين بـ”فيديوهاتها” الأخيرة، لم تُهدد الصناعة فحسب، بل اقتربت من هدم المعبد: معبد الفخامة المصنّعة في الوعي، لا في المصانع.

من الاقتصاد إلى الوعي: ساحة المعركة الجديد

الحرب إذن لم تعد اقتصادية فحسب، بل تحولت إلى صراع سرديات وهوية. ساحته اليوم ليس منظمة التجارة العالمية، بل منصات “تيك توك”، “إنستغرام”، “فيسبوك” و”يوتيوب”، حيث يتحرك الرأي العام خلالها أسرع من المؤشرات الاقتصادية، وتنهار الهيبة قبل أن تهتز الأرقام.

لكن، هل ستُحدث هذه المقاطع تغييرًا فعليًا في السوق؟ من الصعب الحسم، فصناعة الفخامة لا تقوم فقط على الجودة الحرفية، بل على شعور عميق بالتميّز والانتماء إلى طبقة استثنائية.

أتذكر هنا مقولة لأحد وزراء التجارة والصناعة الأوروبيين قال فيها: “الماركات كذبة تسويقية اخترعها الأذكياء لسرقة الأثرياء، فصدقها الفقراء”. قد تبدو العبارة صادمة، لكنها اليوم أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى.

ورغم أن دور الأزياء الكبرى لم تنهَر بعد، إلا أن الصين، من خلال تلك المقاطع البسيطة في شكلها، العميقة في رسالتها، نجحت في إحداث شرخ في الجدار الثقافي الذي لطالما احتمت خلفه تلك العلامات لتبرير أسعارها الفلكية. شرخ قد لا يغيّر قواعد اللعبة فورًا، لكنه يكفي ليزرع في ذهن المستهلك سؤالًا بسيطًا ومربكًا: ماذا أشتري حقًا؟ منتجًا؟ شعارًا؟ وهمًا؟ أم قصة تسويقية محبوكة بإتقان؟

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان