هل يحدد عمر الإنسان مستوى السعادة والتعاسة؟

رحلة الموت بحثًا عن السعادة (منصات التواصل)

لا يكاد يمر يوم دون أن تمر بنا كلمة “سعادة” أو “تعاسة”، وكأنها جزء لا يتجزأ من تفاصيلنا اليومية، ففي بعض الأحيان نشعر بسعادة غامرة، وفي أحيان أخرى ينتابنا شعور بالحزن أو الضيق. يختلف هذا الإحساس من شخص لآخر، بل يتغير في اليوم الواحد، فقد نكون سعداء في الصباح وتعساء في المساء، أو العكس تمامًا، وهذا التبدل السريع يكشف هشاشة الحالة النفسية وتأثرها بتفاصيل صغيرة أو عابرة.

السن الحرجة لذروة التعاسة

في دراسة نشرتها مجلة “Journal of Economic Behavior”، قام الباحثون بتحليل بيانات 14 مليون شخص من دول أوروبية متعددة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى 168 دولة شملهم “استطلاع جالوب العالمي”، وتوصلوا إلى نتيجة مثيرة للاهتمام: هناك عمر محدد يشعر فيه الإنسان بأقصى درجات التعاسة، بغض النظر عن الظروف المحيطة أو الخلفيات الثقافية. هذا العمر هو 49 عامًا.

هذه النتيجة قد تثير القلق في نفوس من هم دون هذا السن، وتدفعهم إلى التساؤل عما إذا كان ينتظرهم مستقبل قاتم. أما من تجاوزوه، فقد يسترجعون ذكريات تلك المرحلة، متسائلين إن كانوا حينها سعداء أم تعساء، ورغم أن العلماء حددوا هذا السن بوصفه ذروة التعاسة، إلا أنهم اعتبروه ضمن ما يُعرف بـ”أزمة منتصف العمر”، وهي فترة يمر بها أغلب الناس بدرجات متفاوتة.

الواقعية تقود للسعادة

توضح الدراسة أن الأمور تتحسن بعد هذا السن، ويبدأ الإنسان في استعادة الشعور بالرضا والسعادة، ومع التقدم في العمر، تزداد الواقعية في النظرة إلى الحياة، حيث يدرك الإنسان أنه كان يلهث خلف سراب من الأهداف غير الواقعية، سواء تعلقت بالثراء، أو الوظيفة، أو الزواج، ومع هذه الإدراكات الجديدة يعيد الإنسان تركيزه على الحاضر، ويتقبل الحياة بما فيها من نجاحات وإخفاقات، مما يمنحه شعورًا بالارتياح يقوده نحو السعادة.

ويبدأ الناس كذلك في تقدير ما كان يبدو يومًا عاديًا، كالصحة أو اللحظات الهادئة، ويشعرون بالامتنان لأنهم ما زالوا يتمتعون بها، ويبدو هذا منطقيًا ومفيدًا، إذ إن معرفة هذه المراحل مسبقًا يمكن أن تساعدنا على التعامل معها بشكل أفضل، والسيطرة على مشاعرنا، بل وصناعة سعادتنا بأيدينا.

دراسة أخرى، أجراها باحثون في جامعة دارتموث البريطانية، أشارت إلى أن الإنسان يشعر بدرجة السعادة نفسها في العشرين والسبعين من عمره، ويقول البروفيسور ديفيد بلانشفلور، المشرف على الدراسة، إن منحنى السعادة والتعاسة المرتبط بالعمر قد تم إثباته في عدد من الدول، ما يبرهن أنه حقيقة وليس خرافة.

اللافت أن سن التعاسة، أو “منتصف العمر”، يتفق عليه سكان الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. غير أن دراسات أخرى أشارت إلى أن التعاسة قد تبدأ مبكرًا في بعض البلدان مثل روسيا والصين والمكسيك، حيث تبدأ قبل سن منتصف العمر بسنوات عدة.

أما تفسير عودة السعادة في السبعين، فيعود إلى أن الإنسان في هذا السن يتخلى عن هموم تأمين الدخل، وقد انتهت مرحلة القلق المالي، فيكتفي بالقليل، ويجد متعته في العائلة والهوايات والعلاقات الاجتماعية، ومع ذلك، لا تنطبق هذه الحالة على من يعانون من أمراض مزمنة أو من انقلبت حياتهم رأسًا على عقب بسبب الديون أو الفقد.

السعادة.. رحلة داخلية لا تحددها الجغرافيا

بشكل عام، تمر حياة الإنسان بمراحل صعود وهبوط، والإنسان بطبيعته لا يسعى للشقاء، بل يبحث عن السعادة حتى وإن كانت في أدنى درجاتها. هناك من يهاجر لأجلها إلى أوطان غريبة، وهناك من يجدها في بساطة العيش وممارسة شعائره الدينية.

أتذكر يوما في أحد مساجد ميونيخ، وقف بجانبي شاب ذو ملامح أوروبية أثناء الصلاة، سمعت صوت بكائه، فأثار الأمر فضولي. بعد الصلاة، سألته عن السبب؟ قال إن اسمه عبد القادر، والدته فرنسية ووالده جزائري، وكان يعيش في فرنسا حياة صاخبة بكل معانيها، لكنه زار جدته في الجزائر لأول مرة، وهناك سمع أذان الفجر، ورأى جدته تتوضأ وتصلي، فشعر بشيء لم يعرفه من قبل، شعور بالطمأنينة والرضا. قال لي: “هناك، في تلك اللحظة، وجدت السعادة”. سألته: “وما الذي جاء بك إلى ألمانيا؟”، فقال إنه يبحث عن زوجة ألمانية مسلمة. لا أعلم ما إذا كان قد وجد سعادته في الزواج من ألمانية مسلمة أم لا، لكن قصته ظلت عالقة في ذهني، كدليل على أن البحث عن السعادة قد يأخذنا في طرق تبدو صحيحة، لكنها قد لا تكون كذلك بالضرورة بالذات مع تعقيدات الزواج في الغرب، وليس هذا فحسب، بل إن هناك لاجئين يخاطرون بحياتهم في البحار والصحاري، باحثين عن بارقة أمل أو لحظة سعادة، رغم ما يواجهونه من أقسى درجات التعاسة.

الحقيقة هي أن الإنسان يظل في بحث دائم عن السعادة، خاصة في الفترة التي تسبق منتصف العمر، وفي خضم تلك التقلبات كلها، قد نغرق في لحظاتنا الصعبة، ونفقد أنفسنا فيها، ومع ذلك هناك أمران يساعداننا في مواجهة هذه التحديات: الأول هو المقولة الشهيرة “بعد كل هبوط، صعود”، فهكذا تسير الحياة. والآخر، أننا لسنا وحدنا في مشاعرنا. كثيرون يمرون بما نمر به، حتى وإن لم يبدُ الأمر كذلك. الناس متشابهون، وكل يواجه تحدياته بطريقته، وما يجمعنا هو هذا السعي الإنساني العميق نحو السعادة.

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان