الحرية والدراما.. وإنقاذ ما يمكن إنقاذه

قضيتان أراهما على قدر كبير من الأهمية، شغلتا الرأي العام في مصر، خلال الأسابيع الماضية، الأولى منهما تتعلق بإذاعة القرآن الكريم، ومدى إيجابية التغييرات التي طرأت عليها، بإلغاء الإعلانات، وتحديد أسماء المقرئين والمؤذنين والموشحين من الرعيل الأول، وأيضًا علماء الفقه والتفسير والحديث والإفتاء من المشهود لهم، بما يكشف أنها الإذاعة الأكثر استماعًا على الإطلاق، سواء على مستوى الفرد، في السيارة والعمل، من خلال المذياع أو الهاتف، أو على مستوى الأسرة، من خلال المذياع أو التليفزيون، ذلك أن النسبة الأكبر من البيوت لا تخلو من بث قرآني على مدار الساعة.
القضية الثانية هي المتعلقة بدراما المسلسلات، التي انحدرت وهبطت وتدنت، خلال مدى يزيد على عشر سنوات، إلى الحد الذي أصبحت تمثل فيه مشكلة حقيقية من مشاكل المجتمع، أخلاقيًا وثقافيًا واجتماعيًا، دون رادع، وبإنفاق يتجاوز الوصف، على الرغم من حالة الاستياء الشديدة، التي كان يعبّر عنها الشارع أو المشاهد طوال الوقت، إلا أن تعليق القيادة السياسية على الحالة الراهنة، كان له أبعد الأثر في التحرك على كل المستويات، الإعلامية والثقافية والأكاديمية، وسط شد وجذب، حول مدى إمكانية تحقيق المستهدف، في غياب حرية الرأي والتعبير.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
نسب المشاهدة.. هل تحرم المشاهد من فاتح القدس؟
عادَ برهامي للتشويش فعُدْنا للبيان
لا جدال في أن الأسرة المصرية ما زالت تشاهد دراما الماضي الهادفة، بشغف منقطع النظير، مقارنة بإنتاج الحاضر، عديم اللون والطعم والرائحة، لا جدال في أن مسلسلات الماضي، أثْرت وأثّرت في الأسرة المصرية من كل الوجوه، الإنسانية والأخلاقية والتثقيفية، كما لا جدال أيضًا في أن أفلام الماضي المعروفة بأفلام الأبيض وأسود، ما زالت الأكثر مشاهدة حتى الآن، مهما كان عدد مرات المشاهدة، ومن كل الأعمار، مقارنة بما كانت تسمى أفلام المقاولات، في زمن الانفتاح، أو أفلام المناظر في ذلك الوقت، ثم أفلام اللا هدف، واللا معنى، في عصرنا الحالي، والأمر نفسه ينطبق على المسرحية، والأغنية، والكاريكاتير، والقصيدة الشعرية، وربما كل أنواع الفنون.
ما زلنا لا نمل ولا نكل من مشاهدة قصة كفاح الحاج عبد الغفور البرعي، وزوجته فاطمة كشري، في مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي)، ناهيك عن كثير من الإشارات التي يحملها المسلسل، وفي مقدمتها ذلك الخلل المجتمعي، الذي جعل معالي الوزير يستعطف بائع الخردة، للحصول على وحدة سكنية في بنايته الخاصة، ما زلنا رغم مرور ما يقرب من نصف قرن من الزمان، نشاهد مسلسل ليالي الحلمية، بكل ما يحمل من تاريخ حافل، وسيناريو لا يقارن، وممثلين فوق العادة، وموسيقى تصويرية، وديكورات، أيضًا ما زلنا نبحث عن مسلسل رأفت الهجان، كحالة وطنية خاصة، في مواجهة عدو تاريخي، بكل ما يحمل المسلسل من جدية، في التأليف والإنتاج والإخراج والتصوير، واختيار الأبطال والمواقع، وانتقاء الألفاظ.
التكنولوجيا وحدها لا تكفي
عن أفلام الماضي حدث ولا حرج، وعن دور سينما الماضي أيضًا، عن المواهب في التمثيل، والتلقائية في الأداء، أيضًا عن مطربين ومطربات الماضي لا مجال للمقارنة، عن أناقة المطرب وجمال المطربة، عن الكلمة واللحن والصوت، عن الفرق الموسيقية والآلات والمايسترو، بل عن الجمهور والصمت خلال الاستماع، ومدى التذوق والشكل العام والخاص، أيضًا عن المسرح، وما أدراك ما المسرح، وعباقرة المسرح، والبهجة التي ما زلنا نبحث عنها حتى الآن في مسرحيات ذلك الزمن، وتلك النخبة من أبطال المسرح.
إذا أردنا عقد المقارنات بين الماضي والحاضر في مجال الدراما، فسوف تقودنا حتمًا إلى الصحافة في الماضي والحاضر، إلى الصحفي والمثقف والموهبة بين زمنين، إلى تدهور التوزيع والخسائر المادية، إلى التفات المواطن عن الصحيفة إلى لا شيء، أيضًا سوف تقودنا المقارنة إلى الكِتاب، ولماذا انصرف الناس عن الكتب؟ القديم منها والجديد، لماذا تحولت معارض الكتب إلى “كافيهات”، ومحلات شاورما، و”آيس كريم”، ولقاءات رومانسية، وتسلية؟ بعد أن كانت سوقًا رائجة، وندوات ومظاهرات وثورات على الأوضاع الاقتصادية والعامة تارة، وعلى التطبيع مع العدو تارات.
كنت في الماضي، أعتقد طوال الوقت أن المستقبل لا بد أن يكون أفضل من السابق، من كل الوجوه، بحكم عوامل عديدة، التطور التكنولوجي، التقدم العلمي، الانفتاح الثقافي، وسائل الاتصال، حجم المعرفة، وحتى الحرية في التناول والتداول، ذلك أن المجتمعات بحكم طبيعة الأشياء، يجب أن تتطور إلى الأفضل فيما يتعلق بالحريات بمختلف أشكالها، السياسية والثقافية والاجتماعية، وهو ما سوف يسهم حتمًا في تطور الإبداع والكتابة والتأليف والدراما، إلا أن العكس هو الصحيح، فلم يفلح التطور العلمي والتكنولوجي وحدهما، في النهوض بالدراما والصحافة، ما دام الركن الرئيس مغلقًا بالضبة والمفتاح، وهو المتعلق بالحريات، حرية الكتابة، حرية التأليف، حرية الإبداع.
الهروب إلى الجحيم
بالفعل، هناك اجتماعات شبه يومية، يعقدها المسؤولون عن المؤسسات الصحفية، يناقشون خلالها أسباب تدهور التوزيع، الذي انحدر من مليون نسخة يومية للصحيفة على سبيل المثال، إلى نحو سبعة آلاف نسخة، عبارة عن اشتراكات في الوزارات والمؤسسات الرسمية، دون أن يحق للمجتمعين البحث في المضمون، المتسبب الأول في إحجام الناس عن الصحيفة أو عن الصحف بشكل عام، وهو ما جعل الدولة تدعم الصحف ماليًا إلى حدود لا يستسيغها العقل، اعترافًا منها بالحقيقة المُرّة المتعلقة بالحصار والرقابة على النشر.
الموقف مع الدراما، غير بعيد عن قضية الصحافة، ذلك أن المؤلف، في ظل هذه الحالة، لن يستطيع التعبير عن الشارع بحق، كما لن يستطيع كتابة التاريخ بصدق، بالتالي لن يستطيع أن يبدع في كل الحالات، بما يجعله يهرب إلى اللاطبيعي، أو إلى الجحيم، من قتل وحرق وبلطجة وتحرش واغتصاب وزنا محارم وخيانة وغدر ومخدرات وإدمان، إلى غير ذلك مما يأباه المشاهد، وترفضه الأسرة، ولا يستسيغه المجتمع، مما ألقى بظلاله على ممارسات الأطفال في الشوارع، والشباب في المدارس، وحتى الفتيات والنساء، والعلاقات الاجتماعية بشكل عام.
على أية حال، بعيدًا عن البحث في أسباب تلك الحالة التي وصلنا إليها، التي أسفرت عن قيام عالم دين بمحاورة الفنانين، وقيام فنان بتقديم برنامج ديني، كان للقرارات السريعة التي تداركتها الهيئة الوطنية للإعلام، بشأن إذاعة القرآن الكريم، أثر كبير، في إنقاذ الإذاعة الأكثر فاعلية، من براثن البيع والشراء والنفاق والمجاملات، وهو ما نأمل في القائمين على الدراما تحقيقه، بإنقاذ ما يمكن إنقاذه، على أقل تقدير، باعتبار أن الدراما أولًا وأخيرًا، ثبت بما لا يدع مجالًا للشك، أنها الأكثر تأثيرًا في إعداد النشء، والأكثر أثرًا في سلوكيات المجتمع، إلا إنه يجب الوضع في الاعتبار، أن الحرية هي العامل المشترك، في كل مجالات الحياة، حتى عندما يتعلق الأمر بالتجارة والصناعة والزراعة، أي الإنتاج بشكل عام.