فرح الكوريين بإقالة الرئيس المعزول!

لم تتوقف الاحتفالات في شوارع كوريا الجنوبية منذ صدور حكم المحكمة الدستورية في سيول بإقالة الرئيس يون سوك يول من منصبه في 4 إبريل/نيسان الجاري.
صدر حكم المحكمة الدستورية بالإجماع بتأييد عزل الرئيس الذي قرره البرلمان في ديسمبر/كانون الأول 2024، احتجاجا على إعلانه الأحكام العرفية يوم 3 ديسمبر، وحل البرلمان وطلبه من وزيري الدفاع والداخلية منع أعضائه من دخول مقر الجمعية الوطنية، لعقد جلسة طارئة تناقش الأسباب التي دعت الرئيس إلى فرض الأحكام العرفية دون طرحها على النواب وفقا للدستور.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
نسب المشاهدة.. هل تحرم المشاهد من فاتح القدس؟
عادَ برهامي للتشويش فعُدْنا للبيان
رأت المحكمة أن الرئيس مذنب بـ”انتهاك النظام الدستوري” و”خيانة ثقة الشعب”، وتصرَّف بطريقة شمولية، و”انتهك واجبه في توحيد المجتمع بصفته رئيسا لكل المواطنين”، وقاد انقلابا عسكريا استخدم فيه القوة لمنع نواب الشعب من التعبير عن رأيهم، واستغل سلطته بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة لفرض إجراءات غير دستورية، مما هدد استقلال القضاء وحقوق الشعب، وألحق الضرر باستقرار الدولة، بما أثر في أسواق المال والعملة الوطنية وثقة المستثمرين.
عدو المعارضة
نرى على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي سلاسل بشرية تضم آلاف المواطنين يلوّحون بأعلام النصر، يبكون فرحا لنجاحهم في إزاحة الرئيس الذي انقلب على الدستور، يرددون “لقد انتصرنا”.
اعترف قائد حزب الرئيس الحاكم “قوة الشعب” بحكم المحكمة، وعبَّر الرئيس عن أسفه للشعب قائلا “آسف لأنني لم أستطع الارتقاء إلى مستوى تطلعاتكم”، ليُلاحَق بأمر جنائي يدفع به -في حده الأدنى- للسجن إلى الأبد، إذا لم يصدر القضاء حكما بإعدامه بتهمة التمرد على الدستور.
أمرت المؤسسات العسكرية بإزالة صورة “يون” من وحدات الجيش ومكاتبها، ووصف زعيم المعارضة المسيطر على الأغلبية في البرلمان الحكم بأنه “انتصار للديمقراطية”.
أنهي حكم الدستورية أزمة سياسية في البلاد، استمرت 4 أشهر، لكنه لم يضمد جراحا عميقة أفرزتها تلك الفترة العصيبة، تعكس هوة الانشقاقات السياسية والاجتماعية، التي وظفها الرئيس للانقلاب على النظام الديمقراطي في بلد أصبح يحتل المركز العاشر عالميا من حيث الناتج الإجمالي الحقيقي الذي يعكس القوة الشرائية للعملة في عام 2024، بقيمة اسمية 1.87 تريليون دولار تعادل قوة شرائية بنحو 3.26 تريليونات دولار.
فقد ارتفع نصيب المواطن في الدولة -التي وُلدت بقرار من الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وفقا لوثيقة “إعلان القاهرة” عام 1944، من فندق “مينا هاوس” على حافة أهرامات الجيزة- من تحت خط الفقر المدقع ليصل اسميا إلى نحو 36.13 ألف دولار، وبقوة شرائية فعلية تعادل 62.96 ألف دولار، وفقا لتقديرات البنك الدولي.
هذه القوة الاقتصادية تعكس تطورا تعليميا وصناعيا وابتكاريا هائلا، بينما ظلت التوترات السياسية معبرة عن انشقاق ثقافي كبير، يؤثر في وحدة الشعب ومؤسساته الدستورية وثقة المستثمرين في مستقبله وموقعه بين اقتصادات الدول الكبرى.
عزل الرؤساء
لم يكن عزل “يون” الأول من نوعه، فقد سبقه عزل الرئيس “بارك غيون هيه” عام 2017، الذي جاء إلى السلطة عام 2013، وأحيل للمحاكمة بتهمة الفساد والتورط مع صديقة له حصلت على رشى من شركة خاصة، فأقاله البرلمان، وأيدت المحكمة الدستورية قرار عزله في 10 مارس/آذار 2017. هناك رؤساء تركوا منصب الرئاسة مبكرا بسبب الانقلاب الدستوري، أو دفعهم إلى الاستقالة، ومنهم من حكم البلاد بقبضة عسكرية غليظة، صبر الشعب عليها طويلا خلال العقود الأربعة من القرن الماضي، حينما كانت كوريا تحبو نحو التمدين وبناء نظام صناعي وديمقراطي، تعيد خلاله تشكيل قيم ثقافية واجتماعية، لتفصلها عن ماضٍ مؤلم شهد حروبا أهلية وصراعات عسكرية مقيتة.
يأتي عزل “يون” كاشفا لأمراض متأصلة في جسد الأمة الكورية، وظفها “يون” أثناء قيادته لحزب سياسي جاء به من منصة القضاء ليصبح رئيسا، فإذا به يدفع بالسلطة القضائية إلى السيطرة بالقوة على الأغلبية المعارضة في البرلمان. لم ينظر الرئيس إلى المعارضة على أنها صوت شعبي رافض لسياساته، بل “مناهضة للدولة” و”وحش يدمر النظام الدستوري الديمقراطي الحر في كوريا”، يحول دون قدرته على تمرير الميزانية والقوانين من الجمعية الوطنية.
استخدم “يون” خطابا معاديا للمعارضة والنظام الديمقراطي، فوصفها بأنها “قوى معادية للدولة تعمل لحساب كوريا الشمالية” الشيوعية، مستعينا بأدوات الاستبداد السياسي التي تلجأ إليها عادة الأنظمة العسكرية والفاشية، متجاوزا السلطات الواسعة الممنوحة له بتعيين القضاة وإقرار الميزانية العامة وتوجيه السياسة الخارجية، ليأمر الجيش بإغلاق مقر “الجمعية الوطنية”، وإلقاء القبض على النواب وكل من تسوّل له نفسه ممارسه حقه في حرية التعبير ودعم النظام الديمقراطي.
صناعة الكراهية
قاد الرئيس المعزول بـ”جنون” تيار المحافظين الذين يحنّون إلى حقبة النظام العسكري الذي قاد الدولة منذ ولادتها، وظل يحكم حتى انتهت حقبة الديكتاتورية العسكرية عام 1987، واحتفظ بإرثها حتى بداية القرن الحالي. تمكَّن هذا التيار من إشعال غضب الناخبين ضد المعارضة، فرفع كراهية الشعب لها من 52.2% عام 2011 إلى 86.5% عام 2022، وجعل التوصل إلى حلول وسطى بين أعضاء البرلمان في القضايا اليومية والمصيرية أمرا صعبا، وفقا لدراسة تحليلية لمجلة “فورن أفيرز” في فبراير/شباط 2025.
امتد الخلاف بين تيارَي اليمين المحافظ والمعارضة إلى ساحة الهويات الثقافية، وقضايا حقوق المرأة المهضوم حقها عند الكوريين تاريخيا، منها انخفاض رواتبها بنسبة 31% عن الرجال وتحميلها مسؤوليات انخفاض المواليد، في مجتمع يعاني الشيخوخة المبكرة، وندرة المواليد، وأزمة نظام صحي وتأمين المتقاعدين، وسوء توزيع الموارد الاقتصادية.
أدى توسع الرئيس المعزول في استخدام مؤسسة القضاء بما يملكه من علاقات بقياداته حينما كان يشغل منصب المدعي العام، وملاحقة الخصوم السياسيين، إلى فقدان المواطنين الثقة بالمؤسسات الرسمية للدولة. بدأ الرأي العام يتحول تدريجيا اتجاه المعارضة، بما جعلها مسيطرة على القرار داخل البرلمان والنقابات العمالية والمهنية. وظفت المعارضة هذه التحولات مع اللحظات الأولى لقرار “يون” حل الجمعية الوطنية، فذهب الناس مع النواب إلى مقرها لفتحه عنوة، دون رهبة من قوات الجيش والشرطة التي أمرها الرئيس باستخدام القوة المفرطة مع المعارضين لقرارات فرض الأحكام العرفية.
ألزم الرئيس المعزول وزيري الدفاع والداخلية ورئيس هيئة الأركان المشتركة بتنفيذ تلك التعليمات بقسوة، وعندما أدركوا أن هذه القرارات أدت إلى هبوط كبير في سعر العملة وتدهور أسواق المال ومخاوف المستثمرين وربما تشعل حربا أهلية، سمحوا لنواب الشعب بالانعقاد، ورفع الأحكام العرفية بعد ساعات من إعلانها رسميا. ورغم استقالة القيادات العسكرية، فقد حمّلوه أمام القضاء مسؤولية “قراراته المجنونة”.
تخوين المعارضة
واجه الشعب الكوري أزمة الانقلاب بجدارة، لاستعادة النظام الديمقراطي، مع ذلك يبقى مستقبله مرهونا بقدرته على اختيار السلطة التي تعيد الثقة بين الشعب والمؤسسات الدستورية بالدولة، فالأمر لن ينتهي عند عزل رئيس أو محاكمته، بل تحويل الأزمة إلى فرصة لولادة نظام سياسي أكثر شمولا واستقرارا.
تُظهر أزمة كوريا أهمية وقوف كل سلطة حاكمة طويلا أمام مخاوف النخبة من خطورة الانقلاب على نظام ديمقراطي، وأخذها على محمل الجد دون تخوين لأحد باعتبارها جرس إنذار قويا للسلطة لما يسببه التجاهل من انهيار فوري للنظام الاقتصادي والسياسي، وتأجيج صراعات على “لقمة العيش” ونزاعات ثقافية واجتماعية لديها قنابل جاهزة للانفجار، قادرة على هدم كيان أمة في أيام معدودات.