في غياب الصحافة المصرية.. وزير يقود كمين شرطة!

مدير إدارة الباجور التعليمية لحظة وصوله للمدرسة أثناء زيارة وزير التعليم لها، وقبل اصابته بأزمة قلبية

توجه وزير التربية والتعليم المصري المثير للجدل في ساعة مبكرة إلى محافظة معروفة بارتفاع نسبة المتعلمين فيها، وانخفاض نسبة الأمية، لكنه قبل أن يكمل جولته المفاجئة غادر المحافظة المعروفة بـ”بلد الرؤساء”، ومعه أو قبله غادرت روح معلم فاضل جسده المتعب بعد تقريع وتعذيب بالكلمات من السيد الوزير أو مدير مكتبه حسب الروايات المتواترة.

محمد عبد اللطيف وزير قادم من عالم القطاع الخاص، وقد شهد تعيينه قبل أقل من عام لغطًا حول شهادة الدكتوراه التي حصل عليها من أمريكا بطريقة التعليم عن بعد.

ما توثقه السجلات

ستوثق أجهزة الحاسب في “السجل المدني” التابع لوزارة الداخلية المصرية أن أسامة بسيوني مدير إدارة الباجور التعليمية بمحافظة المنوفية (شمال القاهرة) توفي يوم السابع من إبريل/نيسان عام 2025، وستذكر السجلات ساعة الوفاة، وأن سببها الظاهر للأطباء هو توقف مفاجئ في عضلة القلب، لكن ذاكرة التعليم المصري -خصوصًا في الأقاليم- لن تنسى بسهولة تلك الوفاة التي تتميز بغرابة التوقيت، وجدلية التفاصيل ومحاولة إخفاء ما جرى عن أعين الصحافة، وتمثل ذلك في تناقض التشييع الرسمي الذي تجاهل مسؤولًا محليًّا مهمًّا، مقابل الجنازة الشعبية الحاشدة لرجل عرف بدماثة الخلق وبأنه محبوب بين تلاميذه وأقرانه.

أين الصحافة؟

تمت الزيارة التي أحيطت بالسرية -كمثيلاتها- في غياب الصحافة المقصود وبحرص على عدم اصطحاب الصحفيين المكلفين بمتابعة شؤون التعليم من مقر الوزارة بالقاهرة، وبتجاهل المراسلين المقيمين في مدن محافظة المنوفية وعددهم يزيد على أربعين (معظمهم أعضاء في نقابة الصحفيين المصريين)، ويقيم أغلبهم في مدينة شبين الكوم عاصمة الإقليم المتاخم للعاصمة القاهرة، والعدد الأكبر منهم ينتمي لمدينة الباجور.

عدم حضور الصحافة وتوثيقها للحدث ساهم في تعدد الروايات الشفوية المسجلة فقط على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في المنوفية، وسط سرديات مختلفة التفاصيل تتفق في توجيه الوزير أو طاقمه كلمات حادة إلى مسؤول التعليم في “الباجور” وأنه أصيب بأزمة قلبية أوجبت نقله فورًا إلى المستشفى.

التزام في القرى

أسامة بسيوني مدير إدارة “الباجور” التعليمية لم يكن على علم بالزيارة، وبمجرد علمه أن وزير التعليم في دائرته الوظيفية سارع بالتوجه إليه لكن الوزير الذي حرص على دخول المدارس دون ترتيب مسبق كان يتحرك بسرعة، وينتقل من مدرسة إلى أخرى في قرى مركز “الباجور”، قبل أن يتوجه إلى مدارس مدينة الباجور نفسها.

كعادة القرى المصرية كان هناك التزام في حضور التلاميذ إلى حد كبير ويسرد بيان الوزارة الذي صدر بعد الزيارة مباشرة كيف دخل الوزير في أثناء الحصص، وكيف اطلع على الكراسات والواجبات المنزلية، وكيف تحدث مع عدد من أولياء الأمور أمام إحدى المدارس، وكيف تفقد حجرة المعلمين وأجرى حوارًا معهم، بعد أن اطلع على دفاترهم في مدرسة “الشهيد محمد رضا وجيد فراج” الإعدادية للبنين.

في مدارس مدينة الباجور نفسها كان الوضع مختلفًا حيث كانت نسبة الحضور أقل ورصد الوزير وفقًا لشهود العيان غيابًا شبه تام لصفوف بأكملها خاصة الصف الثالث الثانوي؛ مما تسبب في غضبه.

اسبقني ولا تتبعني

أخيرًا استطاع أسامة بسيوني مدير الإدارة التعليمية أن يصل إلى الوزير أمام مدرسة الشهيد طيار “محمد عادل شبل عباس” الثانوية المشتركة، وبمجرد أن عرفه بنفسه وفقا لروايات نقلها صحفيون دون نشرها قال له الوزير “هات كشوف الغياب واسبقني إلى مكتبي في العاصمة الإدارية”.

الدكتور محمد صلاح وكيل وزارة التربية والتعليم في محافظة المنوفية –الذي لم يغادر مكتبه- نسب هذا القول إلى مدير مكتب الوزير وهو أمر لا يعفي الوزير من المسؤولية، لكنه أيضا يكشف بوضوح كذب بيان الوزارة الذي أشاد بالانتظام والحضور في مدارس الباجور.

أحس المعلم المعروف بدماثة الخلق بالإهانة خاصة أنه مُنع من الصعود خلفه أو معه “طالع ورايا ليه؟”، ولم يدخل المدرسة مع الوزير فأصيب “بسيوني” بدوار ثم إغماء بعد أن تم تعنيفه كطفل صغير، وتم نقله إلى المستشفى حيث أعلن الأطباء وفاته نتيجة سكتة قلبية مفاجئة.

بيان ما لم يحدث

توفي الرجل بعد جولة محمد عبد اللطيف وزير التربية والتعليم، ولم يتحمل ما وجهه إليه الوزير أو طاقمه من حدة في القول وإمعان في حط القدر والمس بالكرامة أمام مرؤوسيه وربما طلابه. وقد أسرعت وزارة التعليم بإصدار بيان عن الزيارة متجاهلة الرجل الذي سقط مغشيًا عليه وفارق الحياة، إلا أن ما يثير الغثيان أن الوزارة في بيانها ذكرت ما لم يقله الوزير وادعت أن جنابه وضع أكاليل الغار، ووزع كلمات الإعجاب على المسؤولين عن التعليم في المحافظة وأشاد بانتظام الطلاب، وبأداء القيادات التعليمية في إشارة ضمنية لنفي ما يمكن أن يضع الوزير أو مرافقيه في دائرة الاتهام.

مسؤول مقزز -رفض ذكر اسمه- أو افتراضي قال في تصريح منشور بموقع “اليوم السابع” إن الوزير أشاد بالفقيد وأوصى بتكريمه، وإذا كان ذلك حقيقيًّا وليس نفاقًا رخيصًا، فلماذا تحرج المسؤول من ذكر اسمه، وهل كان تكريم الوزير سببًا في الأزمة القلبية التي أصابته حيث لم يتحمل قلبه خبر التكريم، أم أن هذا التصريح المجهول المصدر هو من لزوميات تغييب الصحافة وتنويمها؟

شهادات مكتومة ومحذوفة

موقع “صدى البلد” قدم بثًّا مباشرًا لتغطية الزيارة ووفاة مدير الإدارة التعليمية بالباجور، لكنه عاد وحذفها نهائيًّا من منصاته وصفحاته، كما تم حذف كل ما تسرب للصحافة عن الربط بين الزيارة والوفاة.

بحكم كوني عضوًا في مجلس نقابة الصحفيين تلقيت عدة اتصالات من صحفيين أحدهم يصرخ من الصدمة وإحداهن تبكي من القهر، وثالثة تئن من وخز الضمير، وآخر يخاف من عاقبة كتمان الشهادة بعد أن طلبت منهم قيادات صحفهم ومواقعهم الإلكترونية تجاهل الواقعة وعدم الكتابة عنها، والاكتفاء ببيان الوزارة الذي تجاهل الواقعة والرجل الذي أصبح جثة هامدة في دقائق، وكان أن تسربت تفاصيل حقيقية وأخرى تخيلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي الأقل عرضة للرقابة والسيطرة.

شهود الواقعة كلهم من العاملين في مدارس الوزارة ولم يقدم أحد منهم شهادة تبرئة صريحة أو إدانة واضحة، ولزموا الصمت تماما كما أريد لصحفيي المنوفية الذين وجدوا أنفسهم مقيدي الأقلام وربما الأفواه أيضًا رغما عنهم بفعل تعليمات رؤساء ومديري التحرير، بينما انشغل أهل المتوفى بالجنازة ولم يتقدموا ببلاغ حتى تاريخه.

لم يسبق مدير إدارة الباجور التعليمية الوزير محمد عبد اللطيف إلى العاصمة الإدارية، وإنما سبقه إلى الدار الآخرة حيث سيكون الحساب شاملًا وليس على كشوف الغياب فقط، كما أراد الوزير الذي سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سن صغيرة، ثم عاد إلى مصر مديرًا لسلسة مدارس تملكها والدته نيرمين ابنة المشير أحمد إسماعيل وزير الدفاع الأسبق في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

واقعة أخرى

لم تتطرق الصحافة التي تم تغييبها باتفاق ضمني لمناقشة ما إذا كان الفقيد ذا تاريخ مرضي بالقلب أم لا، وهل ما أصيب به نتيجة ضغط أو صدمة بعد ما تفوّه به “كمين الوزير” أم أنه صدفة عجيبة في التوقيت قد لا تتكرر كثيرًا؟

الصحافة الغائبة أيضا لم تتعامل مع ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعي من أن الوزير نفسه الذي كان في زيارة مماثلة قبل يوم لمحافظة كفر الشيخ قد عنّف وأقال حمودة يونس مدير إدارة “بيلا” التعليمية بعد وقائع مشابهة، وأن يونس يرقد الآن في العناية المركزة بأحد مستشفيات كفر الشيخ.

واقعة كفر الشيخ وردت على مواقع التواصل الاجتماعي وتم نفي الإقالة في بيان رسمي لمديرية التعليم بكفر الشيخ، وفي غياب الصحافة يصبح مناخ الشائعات هو السائد والمسيطر، ولذلك عندما تواصلت مع المراسلين في كفر الشيخ اتضح أن مدير إدارة بيلا تعب فعلا خلال اجتماع في اليوم التالي لجولة الوزير الذي أعفى اثنين من مديري المدارس وليس يونس الذي ذهب إلى المستشفى ثم خرج منه.

هل نحتاج إلى المفاجآت؟

ليس لديّ اعتراض على الزيارات المفاجئة للمسؤولين، فهي قد تكشف أحوالًا تتوارى خلف الزيارات السابقة التجهيز، لكني لا أجد أي مبرر للتعامل المهين من أي مسؤول مع مرؤوسيه مهما كان تقصيرهم، فهناك لوائح وقوانين للتحقيق والحساب وليس من بينها “اسبقني إلى مكتبي في العاصمة الإدارية”.

لا تحتاج أحوال التعليم المصري إلى زيارات مفاجئة على طريقة كمائن الشرطة لضبط أوكار المخدرات والجريمة، ولا تحتاج إلى سرية في الموعد وإمعان في الإخفاء مثل رجال المخابرات، فالحال ظاهر لكل ذي بصر ولكل ذي بصيرة إلا إذا كان المسؤولون يعيشون في بلاد أخرى لا نعرفها ولا تعرفنا.

ما نحتاج إليه!

لا يحتاج تحسين أحوال المدرسين المادية إلى زيارات مفاجئة ولا إلى تعنيف مسؤولين، لا ناقة لهم ولا جمل في جوهر الخلل الاستراتيجي في العملية التعليمية، وفي ارتباك السياسات وتغيرها من عام لآخر، وفي اعتماد خطط جديدة مع كل وزير يجلس في مقعد تشرف يوما بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

لن تتسبب الزيارات المفاجئة في استقرار نظام الثانوية العامة غير المفهوم، ولا في تطوير مستوى الطلاب الدراسي ووعيهم الثقافي والقومي، ولا في تحسين جودة التعليم، ولا في زيادة الإنفاق على التعليم، ولا في اعتباره مشروعًا قوميًّا لمصر المحروسة.

لن تتسبب الزيارات المفاجئة في أي إصلاح وإنما هي نمط استعراضي صاخب يوحي بالحركة والنشاط وليس الإنتاج أو التجويد، وإيحاء بالسيطرة والإلمام بالقواعد وليس الدفع الحقيقي نحو متطلبات العصر.

ربما يحتاج الوزير إلى أن يجلس في مكتبه لا ليستمتع بتأنيب مسؤول محلي لا دخل له في السياسات العليا التي أوصلت التعليم المصري إلى حالة بائسة، ولكن ليستمع -في محاولة للتعلم- إلى المتخصصين في شؤون العملية التعليمية المعقدة وهو أمر لن يتأتى وهو يقود “كمين شرطة” لضبط طالب غائب أو حتى مسؤول مهمل.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان