الاستثنائية الأمريكية والتنين الصيني

العلم الأمريكي على مبنى البنتاغون (رويترز)

(1) مدينة على تلّة

كان الإنجليزي جون وينثروب، الذي هاجر من إنجلترا إلى أمريكا في أوائل القرن السابع عشر هربًا من المجتمع الإنجليزي الفاسد على حد وصفه، هو أول من أطلق على أمريكا وصف “مدينة على تلّة”، مستوحىً ذلك من عظة الجبل حيث خاطب السيد المسيح أتباعه قائلًا: “أنتم نور العالم، لا يُمكن إخفاء مدينة على تلّة”.

وينثروب الذي ينتمي إلى طائفة البيوريتانيين، خاطب رفاقه قبل هجرتهم إلى أمريكا واصفًا مجتمعهم الجديد بأنه سيكون “كمدينة على تلّة، حيث تكون أعين الناس جميعًا علينا”.

تعامل بعض المؤرخين مع خطبة وينثروب على أنها تأسيس لفكرة الاستثنائية الأمريكية، وقد استخدمها لاحقًا سياسيّون ورؤساء مثل كينيدي وريجان، حيث ابتكر الأخير عبارة “بارك الله أمريكا” التي أنهى بها خطاباته، وأصبحت شائعة في الخطاب الرئاسي الأمريكي.

تتجلى مظاهر الاستثنائية في تصريحات القادة الأمريكيين الذين يصفون بلادهم بأنها “أقوى وأهم دولة في العالم”، والأكثر التزامًا بالأخلاق وحقوق الإنسان والعدالة! وهي من وجه نظرهم دولة محمية من الرب وتحقيق لإرادته على الأرض، لكن الواقع يقول إن أمريكا تسجل أعلى معدلات العنف المسلح في المدارس بين الدول المتقدمة، ويمتلك الأمريكيون حوالي 360 مليون قطعة سلاح، أي أكثر من سلاح لكل فرد ولم يستطع رئيس أمريكي أن يسن قوانين للحد من انتشار السلاح أو وضع ضوابط لبيعه بسبب ضغط جماعات تجارة السلاح، كما أنها الدولة الأكثر انخراطا في الحروب الخارجية. رغم ذلك فالشعور بالاستثنائية والأفضلية شائع بين المواطنين الأمريكيين، بفضل التكرار من جانب السياسيين والإعلاميين وأفلام هوليوود التي تمجد الأمريكي وتؤطر تميزه وقدراته الخارقة!!.

كل ذلك يؤثر في تفكير المواطن الأمريكي البسيط ويجعله يشعر بالعظمة الزائفة، ويفسر ما حدث مع الرئيس ترامب الذي استند إلى الاستثنائية الأمريكية في قراراته وتصريحاته الفجة، التي تتجاهل قواعد الدبلوماسية والقوانين الدولية.

(2) عمر قصير ومجد عظيم: سرّ القوة الأمريكية

عمر أمريكا كدولة يقل عن ثلاثة قرون، لكن هذا العمر القصير حمل مميزات جعلتها مختلفة، فهي لا تحمل إرث التمايز الطبقي أو النخبوية الأرستقراطية، بل الجميع فيها يعاملون على قدم المساواة، دون الالتفات إلى ماضيهم أو وضعهم الاجتماعي. في أمريكا، يصنع الفرد قدره بنفسه، فالحلم ليس مستحيلًا طالما لديك الجرأة والمغامرة والإبداع. عكس العالم القديم المثقل بالعادات والتقاليد التي تواجه النبغاء من البسطاء.

لكن أمريكا لم تبدأ من الصفر، بل من حيث انتهت الإمبراطوريات الأوروبية، مدعومة بموقعها الجغرافي المحمي من الحروب الخارجية، وثرواتها الطبيعية الضخمة والمتنوعة التي تغنيها عن العالم، صعدت بسرعة فاقت الإمبراطوريات العظمي السابقة كلها، ووصلت إلى قمة العالم بقوة عسكرية قاهرة واقتصاد هو الأول عالميا وثورة تكنولوجيا عززت السابق، أضف إليها قوتها الناعمة الذي غيرت بها أسلوب حياة الناس حول العالم، مما عزز شعورها بالاستثنائية.

لكن الظروف تغيرت اليوم، فأمريكا تعاني من عجز تجاري بسبب استيرادها أكثر مما تصدّر، وهو ما يحاول ترامب معالجته بفرض “إتاوات” على الدول الأخرى، مستندًا إلى قوة أمريكا وقدرتها على فرض شروطها عبر قوتها العسكرية وهيمنتها على الاقتصاد العالمي، لكن السؤال يبقى: هل الاستثنائية الأمريكية قدر دائم، أم مجرد مرحلة في تاريخ العالم ستنتقل بعدها الهيمنة إلى قوى أخرى، كما حدث مع الإمبراطوريات العظمى السابقة كلها؟

(3) التنين الصيني يواجه الاستثنائية الأمريكية

الصين تفضل الحلول الدبلوماسية لحل الخلافات مع غيرها من دول العالم، واعتدنا منها على ضبط النفس في مواجهة التصريحات العدائية من الجانب الأمريكي، لكنها مؤخرًا بدأت تغير من استراتيجيتها المعتادة، لتبدأ فصلًا جديدًا من التحركات الاستباقية للدفاع عن مصالحها في مواجهة أمريكا.

قام الرئيس الصيني “شي جين بينغ” في إبريل الماضي بجولة في منطقة جنوب شرق آسيا، شملت فيتنام وماليزيا وكمبوديا، والدول الثلاث تواجه ضغوطًا اقتصادية بسبب الرسوم الجمركية التي أقرها ترامب عليها، وهدفت هذه الزيارة المهمة إلى حشد دعم شركاء الصين في شرق آسيا لتخفيف آثار رسوم ترامب ومواجهة الحرب التجارية، كما جاءت زيارة الرئيس الصيني لموسكو لحضور الاحتفال بعيد النصر تأكيدًا للأمر ذاته. تعمل الصين بدأبٍ لحشد حلفائها لحرب طويلة الأمد مع الاستثنائية الأمريكية لتغيير النظام العالمي ليقوم على عالم متعدد الأقطاب، يواجه التسلط القائم على الهيمنة والعقوبات الأحادية وعدم احترام القوانين الدولية.

نجحت منصات التواصل الاجتماعي الصينية في الوصول إلى المواطنين في أمريكا وأوروبا، وإظهار جشع العلامات التجارية العالمية الغربية التي تغالي في أسعار منتجاتها المصنعة في الصين بأسعار زهيدة جدًا، ثم تقدمها للمستهلك في جميع أنحاء العالم بأسعار خيالية، وهذا جزء من حرب إعلامية شعبية أصبحت الصين تمتلك أدواتها، وكانت حتى وقت قريب حكرًا على أمريكا.

السؤال الذي تطرحه الصين على العالم الآن: إلى متى سيظل العالم صامتًا وصابرًا على الغطرسة والاستثنائية الأمريكية؟ لا تخاطب الصين فقط حلفاءها والدول النامية، بل تخاطب أيضًا حلفاء أمريكا التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي الذي اكتوت دوله بالتعريفات الأمريكية في عهد ترامب.

المنطق يقول إنه حان الوقت لإعادة النظر في بنية النظام العالمي الحالي البالي الذي يسمح لدولة واحدة بأن تضع القواعد وتكسرها في آنٍ واحد، فالعدالة الدولية لن تتحقق إلا عندما تخضع الدول جميعها بلا استثناء لمعايير واحدة، والسؤال: إلى متى سيتحمل العالم الغطرسة الأمريكية؟ وكيف تستطيع أمريكا الحفاظ على استثنائيتها وهي تفقد كل يوم معايير التفوق في المجالات كافة؟

التاريخ وحده سيجيب.. وإن غدًا لناظره قريب.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان