صنع الله إبراهيم.. المقاومة بالكتابة

صنع الله ابراهيم (منصات التواصل)

 

في أكتوبر/تشرين الأول 2003 صعد الكاتب والأديب الكبير إلى منصة احتفال ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي ليتسلم جائزته، الكاميرات تركز عدساتها على أحد أهم الروائيين المصريين من جيل الستينيات، وهو يتحرك ببطء ناحية وزير الثقافة المصري آنذاك ليتسلم الجائزة ذات المقابل المادي الكبير.

يمسك صنع الله إبراهيم الميكروفون: “أعلن اعتذاري عن عدم قبول الجائزة لأنها صادرة عن حكومة لا تملك مصداقية منحها، فهي تقمع شعبنا وتحمي الفساد، وتسمح للسفير الإسرائيلي بالبقاء في مصر في حين أن إسرائيل تقتل وتغتصب”.

قال كلمته القصيرة وغادر القاعة بهدوء وسط دهشة الحاضرين وإعجابهم!

صنع الله إبراهيم والكتابة

في سريره بمستشفى معهد ناصر يرقد الآن صنع الله إبراهيم، أحد كبار الأدباء المصريين، يعجزه المرض عن الحركة لكن اسمه المصحوب بالدعوات بالشفاء يصنع حالة من الحراك في الوسط الثقافي الذي يرى في هذا الكاتب الكبير قيمة مصرية وأدبية متفردة لا تعوض.

بين الكتابة والمقاومة ارتباط لا ينفك في عقيدة صنع الله إبراهيم.

فما نعرفه جيدًا أنه لم يكن واحدًا من هؤلاء الذين تغريهم الجوائز أو يغيرهم الزمن، بل ظل مخلصًا لما يعتقد أنه الحقيقة، يكتب كل ما يشبهه مهما تبدلت الأيام، ويدفع الأثمان السياسية والإنسانية القاسية راضيًا مرضيًا.

منذ روايته الأولى “تلك الرائحة” اختار الأديب النحيل ذو الخلفية اليسارية أن يكتب ليقاوم.

خرج من معتقل سجن الواحات الذي قضى فيه نحو خمس سنوات ليسأل: كيف نكتب عن هذا البلد وعن هذا التناقض؟

كانت الإجابة حاضرة في روايته الصادمة.. تلك الرائحة.

بطل الرواية صامت وحائر، يشم رائحة العفن في كل شيء من شوارع القاهرة إلى وجوه الناس وحياتهم.

حكاية أشبه بصفعة هادئة، كأنها الخروج من الحلم الناصري الذي انهزم.

منذ تلك اللحظة كان صنع الله يعلن العصيان عن الكتابة كفعل طيب ومهادن.

فلم يؤمن منذ لحظة خروجه من السجن عام 1964 أن عليه أن يخضع لما يراه السلطان، بل قرر في لحظة صدق إنساني أن يكمل الطريق الذي بدأه، أن يشير إلى تلك الروائح التي تنتشر في مجتمع يغير أحلامه ومثله العليا واحدًا تلو الآخر.

وصف في حكاياته وفي أدبه كل هذه الحيرة وكل هذا الارتباك ليحاول فهم ما الذي جرى في بلد تطغى فيه رائحة الفساد والقمع على كل القيم النبيلة.

في “الواحات” بدا أن الفكرة تكبروتلمع في ذهن الكاتب الموهوب: حبس الأفكار وراء القضبان لا يقتلها لكن الصمت هو الذي يقتل الحياة ذاتها.

كتب وكتب وكسر قواعد الصمت، حتى صار اسمه وحده معبرًا عن الموهبة والحياة والمقاومة.. صنع الله إبراهيم!

اللجنة وذات

بنفس تمرده على “روائح المجتمع” اختار صنع الله إبراهيم أن يكتب بطريقته، وأن يعبر في أدبه بمنهجه الخاص، صنع طريقًا جديدًا في الفن كما في الحياة، انحاز للناس والحب والحرية بصورة لا تعبر فقط عن أحد أهم المجددين في الأدب بل عن إنسان يكتب من وسط الناس ولهم.

يشبه الناس في حيرتهم وصدمتهم، لكنه يختلف عنهم في رفض الصمت والاستسلام.

في روايته الخالدة: اللجنة، كان صنع الله إبراهيم يرسم صورة واضحة عن علاقة السلطة بالناس وبالمثقف، وتشعر أنه حاضر بنفسه في الرواية البديعة.

اختار أن يكون البطل مجهول الاسم، وخاضع لسلسة لا تنتهي من الأسئلة توجهها له سلطة تشك في كل التفاصيل، من القراءة إلى الأكل، ومن المواقف إلى العادات اليومية.

صورة لنظام يتسلط على كل شيء وأي شيء.

كتابة بديعة ومختلفة تصف موقف الكاتب المتمرد من الواقع الصعب والقيود التي لا تنتهي في حياة الإنسان العادي.

كل شيء في “اللجنة” أممته السلطة، من الجسد إلى المشاعر، ومن العقل إلى اللغة والحب والحياة!

هذا هو موقف أديب الستينيات الكبير من السلطة.. أي سلطة.

في عام 1992 نشر تحفته الجديدة: ذات

فتاة عادية تعيش في بيئة شعبية وتشهد تحولات سياسية واجتماعية كبرى ومربكة.

هي مصر بكل تناقضاتها وقسوة الحياة فيها.

“ذات” البنت العادية رصدت التحولات من الاشتراكية إلى زمن السوق، ومن السبعينيات حتى التسعينيات، وكشفت كل المعاني والقيم من خلال السلع والأغاني والمناسبات الرسمية والفضائيات، وكل تفاصيل الحياة التي تغيّرت.

الأهم أن “ذات” كانت المثال الأبرز لكتابة حلوة تركز على الهامش.

وفي هذا الهامش البديع الجميل كان صنع الله يجد مصر كلها.

مصر البسيطة النقية، ومصر القاسية الباطشة.

اختيار الناس لا الأضواء

الكتابة اختيار.

هكذا اختار صنع الله إبراهيم أن يكتب عن الناس ولهم.

ظل يساريًا بالمعنى الجمالي وبالاختيار السياسي والإنساني.

لا تغريه الجوائز، ولا تستهويه الأضواء ولا الصحف والتليفزيونات.

ظل يكتب عن الناس ولهم، يفعل ذلك وهو يدرك أنه الدرب الذي يخلد أي كاتب أكثر من الضجة والأضواء.

اختار أن يكون واحدَا من هؤلاء الذين يقضون أعمارهم في حراسة المعنى، لا يغازل السلطة، ولا يجلس على موائدها حتى لو كان الثمن هو الإقصاء والحصار.

فهذا الحصار مؤقت وهذا الإقصاء زائل، لن يكتبه التاريخ إلا في سياق عابر وهو يتذكر أدبه وفنه ومواقفه التي لا يمحوها الزمن.

بكل الحسابات كان موقف صنع الله صحيحًا بعد أن اختار جيل من شباب الأدباء -نراه اليوم- أن يسير في نفس الطريق وهو يؤمن أن المتعة في الرحلة والتأثير لا في الجوائز والمغانم.

اليوم لصنع الله أحباب وأنصار من جيل يرى أن الكتابة مقاومة لا يجب أن تنهزم.

الآن، وهو يواجه المرض، نعرف أن ما تركه لنا كاتبنا الكبير ليس فقط أدبًا عظيمًا، بل درسًا في النزاهة.

نزاهة أن تكون كما تؤمن، وأن تكتب ما ترى، وأن تظل حرًا تنظر للحياة بطريقتك أنت لا بطريقة يريدها منك أصحاب السطوة والنفوذ.

وما أجملها- وأشرفها- من حياة!

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان