طلقات حاخام: القومية نزعة شريرة والصهيونية “أخلاقية”

الحاخام هارتمان (منصات التواصل)

 

خلال إحدى حروب إسرائيل الأولى ضد لبنان نجا “دونيل هارتمان” من إصابتين مباشرتين لدبابته الإسرائيلية بقذائف سورية وخرج سليما، لكنه أعاد التفكير في الأثمان التي يجب دفعها لوقف الحرب.

يؤمن الرجل الذي أصبح حاخاما بعد تسريحه من الخدمة بأهمية السلام، لكنه يكشف في حوار مع صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أن هناك تفاوتا في مفهوم السلام لدى المجتمع اليهودي. ويمثل الحاخام “دونيل هارتمان” تيارًا نادرًا في المجتمع الإسرائيلي اليوم يؤمن بالتعددية، وبالسلام العادل، وبأن القيم الأخلاقية لا يجب أن تسقط تحت وطأة الصراع والخوف، كما أنه ناقدٌ شجاع للقومية المتطرفة، وداعٍ إلى دمج المعاصرة والليبرالية في الديانة اليهودية، دون التخلي عن الهوية الدينية.

وبرغم وجود نقاش جاد حول كيفية دمج القيم الأرثوذكسية مع قيم الليبرالية المعاصرة إلا أنه ممن لا يرون تناقضا في الأمر ويؤكدون أنه ممكن.

الحاخام التخريبي

في ظل الانقسام العميق في المجتمع الإسرائيلي يُعدّ دعم حاخام أرثوذكسي غير مشروط لعودة الرهائن المحتجزين في غزة لدي المقاومة الفلسطينية أمرًا لافتا، بل يكاد يصل لاتهامه بأنه “تخريبي”، ويفسر “هارتمان” الاتهامات الموجهة إليه بسبب أن المجتمع الإسرائيلي “فقد القدرة على الحوار”.

لدى “هارتمان” حساسية خاصة من قضية الأسرى بسبب صهره الطيار الحربي الذي اعتبر مفقودا لمدة عام ونصف في لبنان قبل أن تُسترد جثته، ولذلك يبدو موقفه غير تقليدي كرجل دين أرثوذكسي من قضية عودة الأسرى حيث يُشدد على الضرورة الأخلاقية لإعادة الجثث: “لا يُمكننا أن نعيش حياة طبيعية حتى تُعاد الجثث، الزمن يتجمد، عندما لا يكون هناك جثمان”.

التجربة الشخصية في الحرب وفقدان صهره كان له أبلغ الأثر في رؤية “هارتمان” الإنسانية. فقد تعلم أن الثمن الإنساني للحرب باهظ ويجب أن يدفعه نحو البحث عن حلول سلمية وأخلاقية.

هل تكون الصهيونية أخلاقية؟

لمدة 25 عامًا، شغل الحاخام منصب رئيس معهد “شالوم هارتمان”، الذي أسسه والده، الحاخام والأستاذ الجامعي “ديفيد هارتمان”، لتعزيز ما يصفه بأنه “صهيونية ليبرالية وأخلاقية بروح اليهودية التعددية”.

بالنسبة لنا نحن العرب لابد أن نستغرب من إمكانية وصف الصهيونية بأنها أخلاقية خاصة أن رئيس معهد “هارتمان” يرى أن القومية نزعة شريرة، ويعتبر أن القومية عندما تمتزج بالدين تتحول إلى خطر كبير، مشيرًا إلى أن “قداسة الشعب” يجب أن تسبق “قداسة الأرض”.

لكن الحاخام يستدعي تراث المفكر الإسرائيلي “يشعياهو ليبوفيتش” (1903-1994) الذي كان يري أنه عندما تتحد القومية والدين، ترشد القومية الدين، وتكون النتيجة قومية متطرفة، وهو الاتجاه الذي يسيطر على إسرائيل حاليا.

ينتقد “هارتمان” النزعة القومية المتطرفة التي أصبحت سائدة في أوساط دينية صهيونية، والتي تركز على القوة وامتلاك الأرض دون اعتبار للأخلاق أو الآخر.

ليسوا خصوما

يرى “هارتمان” أن الفلسطينيين “جزء منا”، أي أنه يعترف بإنسانيتهم وارتباطهم الوجودي بالإسرائيليين، على خلاف النهج السائد في الدولة العبرية الذي يرى الفلسطينيين خصومًا فقط.

وينتقد هارتمان مفهوم “سلام المنتصر”، ويعتبر أن الاحتلال والهيمنة العسكرية ليست سلامًا حقيقيا، ويدعو إلى سلام عادل قائم على الاعتراف بحقوق الطرفين، وليس فقط على إخضاع الآخر.

يُعرف هارتمان نفسه بأنه أرثوذكسي ليبرالي، متمسك بالشريعة اليهودية (الهالاخاه)، لكنه أيضًا منفتح على القيم الحديثة كحقوق الإنسان والمساواة والحرية الدينية، ويعتبر أن الانفتاح على التعددية الدينية والجندرية والعرقية ضرورة دينية، لا مجرد تساهل اجتماعي، كما أنه يدعو لدمج المثليين والمتحولين جنسيًا ضمن الديانة اليهودية دون تمييز أو استعلاء.

في حضرة الخوف

ينتقد “هارتمان” الخطاب السياسي الإسرائيلي الحالي، ويرى أن هناك استغلالًا للخوف لتهميش القيم الليبرالية، ويتهم الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة “بنيامين نتنياهو” بأنها تفضل القمع على الحوار، وتتعامل مع موضوع الرهائن والنزاع الفلسطيني بمنطق القوة فقط، ومعتبرا أن الصدمة والخوف بعد السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023 جمدتا الخطاب الأخلاقي الليبرالي في إسرائيل، وتحكم الخوف، في الخطاب العام، ولم يعد أحد يتحدث عن حقوق الإنسان الفلسطيني، أو عن الأخلاق.

ويشير الحاخام أن فقدان البوصلة الأخلاقية يفقد إسرائيل ليس فقط ديمقراطيتها، بل أيضًا “جوهر يهوديتها الأصيلة”، مشددا على أهمية الحفاظ على المبادئ حتى في الأوقات الصعبة.

النصر الكامل

يؤمن الحاخام بأن النصر الكامل لن يتحقق إلا بعودة كل من بقي على قيد الحياة وكل من مات من الأسرى الإسرائيليين في غزة، وبكلمات غاضبة يعتبر أن “الجميع يكذب” في الساحة السياسية الإسرائيلية ويدّعون أنهم يعملون على إعادة الرهائن إلى ديارهم، مع أننا نعلم أنهم لا يُحاولون فعل ذلك.

ويعتقد أنه من المشروع الحديث عن الثمن الذي يجب دفعه ويخاطب “نتنياهو” قل بصراحة: “يجب أن أتخلى عن الرهائن الأربعة والعشرين الذين ما زالوا على قيد الحياة، لا أستطيع دفع هذا الثمن، يجب أن أهزم حماس، والرهائن يمنعونني من ذلك”. هذا موقف مشروع يُمكن التعبير عنه والتعامل معه، حتى لو لم يكن موقفي.

ويكمل: في هذه الحكومة، هناك فئة تُعتبر القوة هي القيمة الأساسية، وفكرة إعادة الناس إلى ديارهم تُنمّي عن ضعف، مع أن فداء الأسرى قيمة في اليهودية.

البحث عن السلام

كتب “هارتمان” نفسه مقالاً بعنوان “ابحث عن السلام واسعَ إليه”، يناقش فيه مختلف أنواع الخطاب حول السلام في التراث اليهودي. وكما هو الحال في معظم المسائل الأخرى، تتسم اليهودية بالتناقض في نهجها تجاه هذا الموضوع، وتطرح أفكارًا مختلفة، غالبًا ما تتناقض مع بعضها البعض.

وهذه ليست المرة الأولى التي يعبر فيها الحاخام هارتمان عن آراء غير عادية وغير مألوفة للمجتمع اليهودي مثل دمج المثليين والالتزام بالقيم الديمقراطية، والأخلاق العالمية، وحتى رؤية السلام التي قد تبدو يائسة وساذجة.

يقوم الحاخام في حواره بمراجعة متذكرا فترة وجيزة في إسرائيل، بعد حرب لبنان الأولى وخلال عملية أوسلو، حيث لاقت فكرة السلام العادل صدىً واسعًا، وبدأنا ننظر إلى الفلسطينيين كشعب ذي تطلعات وحقوق، لكنه يعترف “منذ الانتفاضة الثانية، لم نشعر بأي التزام أخلاقي تجاه الطرف الآخر، (الفلسطينيون) فالسلام العادل هو الاتفاق على أن لكلٍّ منا حقوقا، وأننا نستطيع التحدث عن واقع يتحقق فيه حقنا، ويعيش شعبان في دولتين جنبًا إلى جنب بسلام وأمن، ويختم بتشاؤم “لا يبدو أن هذا سيحدث في أي وقت قريب”.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان