علمانية الطوائف السورية

شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المُنى
شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المُنى (غيتي)

مصطلحان اثنان نالهما الابتذال أكثر من أيّ شيء مبتذل في الواقع السوري اليوم، الأوّل لوضع العصي بالعجلات، والثاني لتعطيل تحقيقه، وهما العلمانية، والعدالة الانتقالية. فأن تطلب العلمانية من حكومة جاءت من منبت ديني متشدد فهذا يعني أنك لا تريد لهذه الحكومة أن تحقّق أيّ هدف وضعته رغم تخليها (خطابيًا) عن هذا التشدد. أمّا عمليًّا فتحتاج لبعض الوقت؛ كي تحوّل أقوالها لأفعال، هذا الوقت الذي لا يريد المعترضون السوريون أن تحصل عليه.

أمّا العدالة الانتقالية -إن تحققت- فستطول رؤوسًا كثيرة جدًا لا يرغب المعترضون بأن تُحاسب، وكثير منها يُشكّل قوام القوة العسكرية التي حاولت الانقلاب على السلطة الجديدة، بدايةً في الساحل السوري، ثمّ في الجنوب السوري، وهذا يُفسِّر حالة التعنت الشديد الذي يتمسك به “حكمت الهجري” القائد الروحي لجزء من الدروز، والمتبني للمجلس العسكري الذي يريد تحرير دمشق من سلطة الأمر الواقع.

شعارات المعارضة الحديثة

“نريد سوريا علمانية مدنية يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، ويكون للمرأة دورٌ بارز في إعادة بناء الدولة”. شعار سمعناه آلاف المرات من نخب ثقافية بارزة حينًا، ومتواضعة أحيانًا، نادى به مثقفون سنّة يساريون، ومثقفون علويون، ودروز، وأكراد، وامتلأت به مساحات السوشيال ميديا المقروءة، والمسموعة، والمرئية.

لن أتطرق بالشرح لمفهوم العلمانية فهو متاح لكلّ باحث، لكنّي سأذكر أحد الآراء التي رجعت للعصر الأندلسي واستخرجت بذرة الفكرة من ذلك العهد، إذ لما رأى المسيحيون في الأندلس المسلمين وعلاقتهم بربهم -حيث لا واسطة بين المسلم وربه- طالبوا بأن يكونوا مثلهم، وأن يجدوا طريقة يتخلصوا بها من الوسيط بين المسيحي وربه، هذا الوسيط الذي يبيعهم صكوك الغفران، ويفرض عليهم الأتاوات، ويتواطأ مع الملوك لإخضاعهم لسلطة الكنيسة، نمت هذه البذرة، وتكاثرت أغصانها لتغدو في زمن الثورة الفرنسية شعارًا يردده الفرنسيون جميعًا (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قس).

مأزق اليساريين السوريين

لقد مرّ زمن طويل جدًا ليقتنع عامة الناس بفكرة العلمانية التي فرضها الشعب عبر ثورة عظيمة بعد أن هضم الفكرة جيدًا. أمّا في سوريا وفي بلادنا العربية عمومًا، فغالبًا لا نجيد إنتاج الأفكار، ونستسهل استيرادها، ونبرّر ذلك بحجة الاستفادة من تجارب الشعوب بغض النظر عن مكونات الخلطة الكيميائية المتباينة بين هذه الشعوب، ونتوقع دائمًا الحصول على النتيجة ذاتها. فاليساري السوري الدرزي ينضوي تحت لواء شيخ العقل، ويمتثل لأوامره، ومن ناحية ثانية يمنع الميراث عن أخته، وإذا تزوجت من غير الطائفة يقتلها، وفي الوقت نفسه يُطالب بدولة علمانية، حتى أنّ الابتذال وصل حدَّ مطالبة شيخ العقل ذاته بدولة علمانية وفي الوقت نفسه يضع على بدلة رجل الأمن الذي عيّنه شعار (يا سلمان) فكيف يطالب الشيخ بفصل الدين عن الدولة، أليس من الأولى أن يعزل نفسه أولاً، ثمّ يتقدم بمثل هذا الطلب؟

العدالة الانتقالية القشة التي يتعلّق بها المجرمون

أمّا عن العدالة الانتقالية فلا ذكر لها عند الشيخ حكمت ومجلسه العسكري وقد وصل به الأمر حد المطالبة بإعادة عناصر الجيش، ودفع رواتب للمجرمين المختبئين في مجلسه العسكري، رغم أنّ بعضهم من كبار المجرمين في العهد البائد.

في الجانب الآخر، وكي لا يبدو الأمر دفاعًا عن طائفة بعينها نجد بعض اليسار السنّي يقع في الحفرة ذاتها إذ نراه يتلعثم عند ميراث أخوته البنات، وقد يستعيد إيمانه بالله إن اقتضت المصلحة ذلك.

أما الجماعة الكردية التي تأوي عصابة قنديل (pkk ) فالأمر لا يتوقف عند هذه التناقضات، بل يتعداه إلى ما هو أخطر من ذلك فاختطاف القاصرات والأطفال وتجنيدهم عسكريًا في خدمة حزب العمال الكردستاني يُعد جريمة الجرائم التي لا يقبل بها دين أو نظام علماني على وجه الأرض، ومع ذلك يريدون سوريا علمانية.

الأسد فكرة والفكرة لا تموت!

هذا الواقع الأسود الذي تعيشه سوريا اليوم، هو نتاج طبيعي لما أفرزه الاستبداد الأسدي الذي جعل من السهولة بمكان ارتباط بعض المكونات بأجندات خارجية تلعب في الملف السوري كما تشاء مصالحها، يُساعد في ذلك مجمل الأخطاء التي وقعت فيها السلطة الجديدة والتي تحاول جاهدة تسوية النزاعات بطرق سلمية قد تضطرها لتنازلات هي بغنى عنها، خاصة وأنّها تعلم جيدًا أنها مرحلة انتقالية يجب أن تنتهي بدستور يرضى عنه العالم (المتحضر) قبل الشعب السوري الذي ما زال ينتظر العدالة الانتقالية، ورفع العقوبات الأمريكية عنه؛ كي تبرأ جراحه.

وعلى هذا الأساس ينظر السوريون المعتدلون إلى النشاط الخارجي للرئيس الشرع نظرة أمل لإيجاد حلّ للوضع السوري في أقرب وقت، بينما يحاول الطائفيون العلمانيون التغطية عليه بنشر قصص الخطف والاضطهاد من قبل الدولة الإرهابية.

فقد طلب مشايخ الدروز من العائلات الدرزية إعادة أبنائهم من جميع الجامعات السورية إلى السويداء، وانتشرت الفيديوهات التي علّق عليها الإعلامي الدرزي المعروف بمواقفه المُشرّفة من الثورة السورية منذ انطلاق شرارتها الأولى، قائلًا: “الرحيل الجماعي لطلاب السويداء من جامعاتهم في المحافظات السورية -بسبب الاعتداءات المتكررة عليهم على خلفية انتمائهم الديني-خبرٌ لن تجد له أثرًا في الإعلام المسمّى وطنيًّا! يا لعارنا!”. وللأسف لم يكن ماهر شرف الدين وحده الذي تبنّى التحريض الطائفي علنًا، بل كثر من مثقفي وإعلامي الطائفة.

وعلى الطرف الآخر ارتفعت نسبة شيطنة السنة من قبل العلويين الذين ركبوا ترند “السبي” فراحوا ينشرون صورًا لفتيات مخطوفات على أنّهنّ سبايا “الأمن العام” وأنّ إدلب صارت سوقًا للسبايا. ويتبين بعد أيام أنّ الخبر كاذب، وتظهر الفتيات في فيديوهات مسجلة ينفين تعرضهنّ للخطف، لكنّ المحرضين لا يتوقفون، ويستمرون في تسويق أوهامهم التي يتمنّون لو كانت حقيقة؛ كي يستطيعوا الطعن في الحكومة وتكريس صفة الإرهاب عليها.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان