من يُشعل النيران في الشرق الأوسط؟ قراءة في مصادر الصراع

أسرة كريم تعيش مثل الكثير من أهل القطاع في مخيمات الإيواء
ما يحدث في غزة هو جزء من الصراع على الشرق الأوسط (رويترز)

من يشعل النيران في الشرق الأوسط؟ سؤال قديم جديد، يتكرر مع انفجارات لا تهدأ، ودوي رصاص لا يتوقف، ودماء معصومة تُراق، وأرواح طاهرة تُزهق، وأحداث متتالية تعيشها المنطقة منذ عقود.

الشرق الأوسط ميدان لصراعات طويلة ومعقدة، تتشابك فيها الأيديولوجيات والمصالح الجيوسياسية، ويتداخل فيها الفاعلون من القوى العالمية، إلى جانب إرث استعماري مستمر؛ كل ذلك يرسم خريطة من الفوضى والتدخلات.

نيران مركبة وملف طويل الأمد

وعندما يُطرح السؤال: من يُشعل النيران في الشرق الأوسط؟ فإن الإجابة ليست بسيطة؛ وذلك لأن النيران مركبة، وتغذيها مجموعة متشابكة من العوامل الخارجية والداخلية؛ سياسيا واقتصاديا، تُذْكي سعيرها قوى دولية، وصراعات إقليمية متصاعدة، وسلطوية محلية استبدادية؛ مما يعني أننا إزاء مجموعة متشابكة من العوامل والفاعلين المحليين والدوليين يساهمون في اشتعال النيران في المنطقة.

وعندما نتناول الحديث عن الشرق الأوسط، فإننا نتناول ملفا كبيرا معقدا، يتكون من ملفات متعددة طويلة الأمد. ورغم أن ما يتناوله هذا المقال من العوامل التي تُشعل النيران في الشرق الأوسط قد يُصنّف في السياق الصحفي ضمن الموضوعات “الأرشيفية”، فإن استمرار الحالة، وما يطرأ عليها من مستجدات، يفرض ضرورة دائمة لإعادة طرح هذا النقاش. فالتذكير بالأسباب التي تُفضي إلى النتيجة -الشرق الأوسط المشتعل- التي نعاني منها اليوم ليس تكرارًا، بل إنعاشٌ للوعي المسترخي بما يجب أن يُعلَمَ بالضرورة. ومن ثَمّ، فإن هذا الاستحضار ليس مجرد اجترار للماضي، بل مدخلٌ لازم للبحث الدائم والقراءة التحليلية المتجددة في سُبل الخروج من هذا المأزق المستمر، وإنهاء تلك الحالة التي فُرضت على المنطقة وأصبحت ملازمة لها.

أسئلة عديدة وعوامل متشابكة

من يشعل النيران في الشرق الأوسط؟ هل هي التدخلات الغربية والإرث الاستعماري المستمر؟ أم الولايات المتحدة الأمريكية بتحكمها الاستراتيجي؟ أم المشروع الصهيوني الإسرائيلي في فلسطين؟ أم صراعات القوى والطموحات المتنازعة الإقليمية؟ أم السلطوية المحلية المستبدة؟ أم مزيج مركب من هذا كله؟

هذا ما نحاول تفكيكه ورصده “باقتضاب شديد” في هذا المقال التحليلي، ضمن المساحة المتاحة. ويظل كل واحد من هذه العوامل الخمسة، يحتاج منفردا إلى مباحث مطولة للوقوف على تفاصيله.

التدخلات الغربية والهيمنة المستمرة

تمثل منطقة الشرق الأوسط نموذجا صارخا للتدخلات الأجنبية. وتُعد التدخلات الغربية المسمار الأول في نعش استقرار المنطقة، والسبب الرئيس في حالة الفراغ الاستراتيجي.

منذ اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا، تسير المنطقة بطريقة مرسومة خارجيا. وقد تشكلت دول المنطقة عبر خرائط مصطنعة من القوى الاستعمارية الغربية، كانت بمثابة ألغام سياسية وجغرافية، انفجرت لاحقا في شكل نزاعات حدودية وحروب أهلية.

وتحت ذرائع “الديمقراطية” و “مكافحة الإرهاب”، سعت القوى الغربية إلى فرض نماذج سياسية واقتصادية خادمة لمصالحها.

وقد شهدت المنطقة تدخلات عسكرية غربية مباشرة في أكثر من دولة، أدت إلى انهيار مؤسسات، واشتعال النزاعات الطائفية، وفوضى وانقسامات ضربت المجتمعات.

وفي كل الأحوال، لم تكن التدخلات الغربية بهدف المساعدة في بناء دول مستقرة، بل كانت إعادة هندسة سياسة تضمن الحفاظ على النفوذ والهيمنة، والتحكم في موارد الشرق الأوسط وممراته الحيوية، خاصة النفط والغاز، وتأمين الأسواق المستدامة لصناعات السلاح والطاقة الغربية.

الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة الفوضى

بوصفها القوة العالمية الأولى على مدار عقود، أدّت الولايات المتحدة الأمريكية دورا محوريا في تشكيل الجغرافيا السياسية وصوغ الأحداث في الشرق الأوسط، بداية من دعمها المطلق لإسرائيل، مرورا بغزو العراق، وانتهاء باتفاقات التطبيع مع دول عربية.

تتعامل أمريكا مع المنطقة انطلاقا من رؤية تعتمد الحفاظ على التفوق الاستراتيجي، ووأد أي قوى إقليمية مستقلة قبل بروزها، وضمان تدفق الطاقة، وأمن إسرائيل، ومواجهة النفوذ الصيني والروسي.

أمريكا في العراق دشنت البداية الكبرى للفوضى الحديثة، وفي سوريا تمسك بالخيوط من وراء ستار، وفي فلسطين تؤمن غطاء مطلقا للاحتلال الإسرائيلي.

وانطلاقا من منطق جيوسياسي للربح والخسارة، تفوض أمريكا آخرين بالحروب في المنطقة، وتسلح دولا، وتفاوض أخرى، وتعاقب وتمارس الاحتواء.

وإذا أردنا توصيفا مختصرا لدور الولايات المتحدة في صراعات الشرق الأوسط ونيرانها التي لا تخمد، فإن الولايات المتحدة هي المايسترو الذي يحدد إيقاع الصراعات، وهي مشعل النيران بالتحكم الاستراتيجي.

تعتمد الولايات المتحدة في التعامل مع المنطقة “استراتيجية إدارة الفوضى لا حلها” و” إدارة النزاعات” وليس إنهاءها.

المشروع الصهيوني الإسرائيلي: مصدر التوتر الدائم بالمنطقة

يُعد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين جرحا غائرا في جسد الأمة العربية والإسلامية لا يندمل.

ومنذ عام 1948 كان المشروع الصهيوني الإسرائيلي أحد أبرز مصادر التوتر الدائم في الشرق الأوسط، مدعوما من القوى الغربية والولايات المتحدة.

يمارس الاحتلال الإسرائيلي التوسع الاستيطاني، والاعتداء على المقدسات، وعمليات التهجير والاغتيالات والقصف، التي تتجاوز الحدود الجغرافية، فضلا عن الحصار المستمر لغزة وحربه الأخيرة عليها المستمرة منذ عام 2023، كل ذلك يؤجج مشاعر الغضب والرفض في المنطقة.

كما تمارس إسرائيل الاعتداءات المتكررة على لبنان وسوريا واليمن، إضافة إلى الدور المشبوه في زعزعة استقرار دول عربية مثل العراق والسودان.

ولا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بالصراعات العسكرية، بل يسعى لاختراق المنطقة سياسيا واقتصاديا، وفرض واقع إقليمي يضمن تفوقه الدائم.

وفي الوقت نفسه، فإن المشروع الصهيوني الإسرائيلي متحالف مع قوى الاستعمار والسيطرة العالمية؛ إذ تربطه مصالح كبرى مع أمريكا وبريطانيا، ويتلقى دعما غربيا مطلقا؛ من أجل فرض الهيمنة الغربية في المنطقة وتحييد أية أصوات مقاومة. وفي كل الأحوال، يظل الاحتلال الإسرائيلي هو المستفيد الأكبر من اشتعال النيران واستمرار الفوضى.

صراعات القوى والطموحات المتنازعة إقليميا

لا تشتعل الصراعات في الشرق الأوسط بفعل الخارج فحسب، بل يغذيها تنافس محموم بين مشاريع إقليمية ذات رؤى متباينة لمستقبل المنطقة وهويتها. تتجاوز الصراعات الإقليمية والطموحات المتنازعة حدود السياسة إلى الإعلام، والثقافة، والتعليم، ويُستخدم فيها كلٌّ من القوة الناعمة والخشنة.

السلطوية المحلية المستبدة

في كثير من الأحيان، قد تكون النيران من الداخل؛ إذ يؤدّي الاستبداد السلطوي في المنطقة دورا رئيسا في إجهاض آمال التغيير للأفضل؛ مما يوجِد بيئة خصبة للتمرد والعنف.

وقد أدى تركيز بعض النظم الأمنية على البقاء في السلطة على حساب العدالة والبناء، إلى انفجار الأوضاع الداخلية والاحتراب الأهلي، كما حدث في سوريا واليمن والسودان.

وفي ظل استمرار الفساد، وغياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتدهور الأوضاع الخدمية، يتوفر وقود دائم يغذي الاحتقان الداخلي، مما يجعل المجتمعات شديدة الهشاشة أمام أي اضطراب.

خلاصة القول

من يشعل النيران في الشرق الأوسط؟

الإجابة التي يخبر بها الواقع: الجميع.

إن النيران المشتعلة في الشرق الأوسط لا يمكن القول إنها نتيجة عوامل خارجية وحدها، ولا إنها فرضتها كلها عوامل داخلية.

إنها ناتجة عن معطيات وعوامل متشابكة: تدخلات خارجية سببت فراغا استراتيجيا، واحتلال صهيوني يؤجج الغضب ويديم الصراع، وتنافس وطموحات إقليمية متنازعة، واستبداد محلي قمع بعنف رغبة الشعوب في التغيير إلى الأفضل.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان