الجيش الباكستاني.. معارك الخارج وتأزيم الداخل

منذ تأسيس باكستان عام 1947، خاض جيشها عدة معارك مع الهند، كان أحدثها تلك التي وقعت قبل عدة أيام، والتي سجل فيها نتائج جيدة قياسا بالمعارك السابقة من ناحية، وقياسا بتصنيفه المتأخر بالمقارنة مع عدوه اللدود (الجيش الهندي) الذي يحتل المركز الرابع عالميا على مؤشر غلوبال فاير باور، في حين يحتل الجيش الباكستاني المركز الثاني عشر في تصنيف العام الحالي 2025.
استطاع الجيش الباكستاني مواجهة الجيش الهندي الأكثر عددا وعدة خلال العقود الماضية، وتمكن من تطوير سلاحه سواء عبر التصنيع المحلي، أو عبر الشراء من الخارج، وكانت قمة النجاح في امتلاكه القنبلة النووية في مايو/أيار من عام 1998، ليلحق بغريمه الهندي الذي امتلكها قبل ذلك بعشر سنوات، وليفرض منذ ذلك الوقت ما يعرف بتوازن الرعب مع الهند، وهو ما أسهم في إبقاء المعركة الأخيرة في الحدود التقليدية، بل وإيقافها سريعا قبل أن تتطور إلى مستويات أكبر بعد أن تمكن من الثأر من الهند التي بدأت العدوان.
انقلابات عسكرية متكررة
تعاظم قوة الجيش الباكستاني وحروبه الخارجية، والمكانة الشعبية التي حظي بها مكنته من أداء دور داخلي كبير عبر التلاعب بالمشهد السياسي والحزبي سواء بطريقة مباشرة من خلال سلسلة من الانقلابات العسكرية على حكومات منتخبة (1958، 1971، 1977، 1999)، أو بطريقة غير مباشرة عبر التلاعب بالأحزاب الباكستانية وتقريب بعضها وتشويه بعض آخر، وعقد تحالفات بين بعضها، واستبعاد بعض آخر، وإحداث انقسامات داخل بعضها، أو حتى تأسيس أحزاب جديدة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل انتهى المشروع النووي الإيراني إلى غير رجعة؟
الضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
الحياة السياسية والحزبية في باكستان سابقة لتأسيس الدولة، فقد شاركت النخب الباكستانية في العمل السياسي ضمن الهند الموحدة قبل التقسيم، وكان مؤسس باكستان القائد محمد علي جناح هو الرجل الثاني في حزب المؤتمر الوطني بعد غاندي، وقد غادره إلى حزب الرابطة الإسلامية الذي تأسس عام 1906 وقاده منذ مطلع الأربعينيات، وصولا إلى استقلال باكستان عام 1947، لكن هذا الحزب تعرض لهزات، وانفرط عقده عقب انقلاب الجنرال أيوب خان عام 1958 وقراره بحل الأحزاب السياسية، وقد ازدهرت الحياة الحزبية الباكستانية منذ منتصف الستينيات مع تأسيس حزب الشعب (أسسه ذو الفقار علي بوتو 1967)، ومع وجود حزب الرابطة الإسلامية، وبعض الأحزاب الأخرى.
حزبان كبيران وثالثهما إنصاف
ظل الحزبان (الشعب والرابطة الإسلامية ) يسيطران على المشهد السياسي، ويتناوبان على الحكم، ينازعهما فقط الجيش عبر بعض الانقلابات والحكومات العسكرية، حتى ظهر في المشهد حزب الإنصاف الذي أسسه لاعب الكريكيت عمران خان نهاية التسعينيات، والذي مثل ضلعا ثالثا قويا للحياة الحزبية بالتزامن مع موجة الربيع العربي، حيث بدأ الحزب زحفه إلى البرلمان منذ عام 2011 حتى تمكن من تشكيل الحكومة برئاسة عمران خان لأول مرة من عام 2018 حتى 2022، وإضافة إلى هذا الثلاثي الحزبي هناك أحزاب وقوى سياسية أصغر حجما ومنها الأحزاب والجماعات الإسلامية، وأحزاب تتمتع بحضور مناطقي فقط مثل الأحزاب القومية.
رغم الحديث عن دور غير مباشر للجيش في تأسيس حزب الإنصاف فإنه أصبح الخصم الرئيسي للمؤسسة العسكرية، وحاول رئيسه عمران خان تقليد تجربة أردوغان في ترويض الجيش، ونزع مخالبه من الحياة السياسية الداخلية، وهو ما جعله (أي الحزب ) الأكثر قبولا من فئة الشباب، والأكثر تعبيرا عنها، وكلما تصاعدت وتيرة الأزمات بينه وبين المؤسسة العسكرية كان ذلك بابا لكسب المزيد من الحضور النيابي في الانتخابات البرلمانية سواء الأساسية أو التكميلية، لكن الجيش الذي كظم غيظه بعض الوقت لم يستطع المزيد من الصبر فقرر الإطاحة بعمران خان بطريقة غير مباشرة قبل عام من نهاية دورته (كان مقررا لنهايتها عام 2023)، حيث رتب الجيش من خلف الستار تحالفا برلمانيا مضادا له سحب الثقة منه في البرلمان، وعقب سقوط حكومته لاحقه بالقضايا التي حبس بسببها حتى الآن، لكنه لا يزال يتمتع بتأثير قوي في الأحداث من داخل محبسه.
علاقة مدنية عسكرية متوترة
ظلت العلاقة بين الجيش والقوى السياسية في حالة شد وجذب منذ الاستقلال، يستخدم الجيش قوته ونفوذه وأدواته لفرض هيمنته على الحياة السياسية، سواء عبر انقلابات وحكم عسكري مباشر أحيانا، أو عبر مساعدة بعض الأحزاب للوصول إلى الحكم أحيانا، ومن جهتها تسعى القوى السياسية إلى تقليص دور الجيش في العمل السياسي، فتنجح أحيانا وتفشل أحيانا، ولعل اتفاق تلك الأحزاب على تعديل الدستور عام 2010، والانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني كان خطوة مهمة في هذا السياق، حيث كان معظم الرؤساء السابقين عسكريين، وكلما تمكنت الأحزاب والقوى السياسية الباكستانية من الاتحاد على هدف فإنها تستطيع فرضه على المؤسسة العسكرية. ومن المفيد هنا أن نتذكر أن هذه القوى اتحدت على إسقاط حكومة برويز مشرف الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري عام 1999، وتم إسقاط حكومته عام 2008، والأشد من ذلك محاكمته بتهمة الخيانة العظمى والحكم عليه عام 2019غيابيا بالإعدام، لكنه توفي في منفاه في الخامس من فبراير/شباط 2023.
الكر والفر بين الجيش والقوى السياسية في الداخل الباكستاني سيستمر حتى يتمكن الطرفان من تحديد العلاقة الصحية بينهما، وحدود دور كل طرف في الشأن العام كما هو الحال في الهند حيث يبتعد الجيش عن السياسة، كما أن استمرار التوتر بين الطرفين في ظل التحديات الخارجية التي تمر بها باكستان ليس في مصلحة الجميع.