“صنع الله إبراهيم” الكتابة على دقات الحروف وصوت المذياع

صوت مذيع البرنامج الفلسطيني الذي يذاع منذ ثلاثين عاما يطمئن أهله أنه بخير ويطلب منهم طمأنته: “نحن بخير طمنونا عنكم”.
أشلاء أسرة عربية كانت تلعب الورق، طفل قتيل ما زال يمسك بورقة لعب في يده، شظايا القذيفة التي سقطت عليهم تختلط ببقايا الأجسام.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل انتهى المشروع النووي الإيراني إلى غير رجعة؟
الضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
“إن قلوبكم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تتألم وأنتم تقتلون عدوكم ولا ينبغي طالما أننا بعد لم نقض على ما يسمى بالحضارة العربية” مناحم بيغن.
بيروت بيروت
الصورة السابقة رسمها المبدع صنع الله إبراهيم في روايته “بيروت بيروت” من المخيمات الفلسطينية في لبنان عام 1980 تحت الإدارة اللبنانية في فترة من أحلك فترات القضية الفلسطينية ولبنان.
هل اختلفت الصورة التي رسمها الأديب المصري الكبير منذ 45 عاما عن الصور القادمة الآن من غزة ومخيماتها، ومخيمات الضفة الغربية تحت إدارة السلطة الفلسطينية، هل لاحظتم خلافا بين كلمات مناحم بيغن صاحب السلام المزعوم، ونتنياهو اليميني المتطرف الذي يحكم الكيان الصهيوني، لا فرق ما داموا لم يقضوا بعدُ على الحضارة العربية، ولا عزاء لمن لا يقرأ.
لا أتذكر بالضبط متى وقعت في يدي النسخة الورقية من رواية صنع الله إبراهيم “بيروت بيروت” وهل كان ذلك في سنوات الجامعة في النصف الأخير من الثمانينيات، أم بعدها بسنوات؟
كانت الرواية بداية معرفتي بهذا الروائي المبدع ثم اقتنيت عدة روايات له منها تلك الرائحة، واللجنة، ولم أتمكن في السنوات الأخيرة من اقتناء رواياته التي نشرت حديثا، وأهمها بالنسبة لي روايته عن عام رحيل جمال عبد الناصر (1970). ومنذ مرض الكاتب الكبير ودخوله إلى معهد ناصر انتويت الكتابة عنه فما زالت بعض المشاهد من روايته “بيروت بيروت” لا تغادر ذاكرتي، وكان أن سبقني الزميل عمرو بدر بكتابة مقال عنه هنا، ونويت تأخير مقالي حتى وجدت نسخة كاملة من أعماله على الإنترنت، وجدتها مجانية وتلك كانت مفاجأة، فقمت بتنزيل المجموعة كاملة.
قرأت رواية “بيروت بيروت” عدة مرات من قبل وها أنا أعود إليها ومعها باقي أعمال صنع الله إبراهيم وشدني هذا المزج بين عناوين الصحف وبين البناء الدرامي للأحداث، وتظهر الرواية كفيلم تسجيلي يحيط بأحداثه صوت المذيع التلفزيوني وعناوين الجرائد التي يتصفحها الكاتب (الراوي) والأحداث الأدبية، وتسجل وقائع أحداث الحرب الأهلية في لبنان، وتنتهي بالاجتياح الصهيوني لبيروت 1982.
روايات وثائقية
يغوص صنع الله إبراهيم في بيروت يقدم حياتها السياسية والثقافية، والاجتماعية، يرسم شخصياتها السياسية والثقافية بين كل أطياف الحياة السياسية، يكشف نوعيات من الساسة والمثقفين، يقدم صورة بريشة اقتربت منهم وعايشتهم من خلال رحلته للبحث عن ناشر لروايته الجديدة، وعمل فيلم تسجيلي عن بيروت وأحداث في عام مفصلي من أعوامها، فقد انتهت الحرب الأهلية إعلاميا منذ ثلاث سنوات، ولكن ظل الصراع في بيروت (لبنان) بعدها سنوات حتى استقرت الأمور، وبينما يهاجم الصهاينة بيروت ولبنان كان الرئيس المصري السادات يفتتح سفارة للكيان في القاهرة.
“يا أهالي أجهور، أنا سعد إدريس حلاوة، منكم وفلاح زيكم بأزرع أرضي بإيدي وعرقي. ما سبتهاش ورحت أبيع الجاموسة، أو أرهن البيت واستلف بالفايظ عشان أشتري تذكرة سفر، أو عقد عمل مزور للعمل في ليبيا أو السعودية. النهارده ٢٦ فبراير ١٩٨٠، النهارده بالذات السادات فتح لإسرائيل سفارة في الدقي ورفعوا عليها علمهم”.
يرصد صنع إبراهيم الرد الشعبي على افتتاح السفارة الصهيونية في رواية أخرى له (وهي “ذات”) من خلال عملية اغتيال سعد إدريس حلاوة ابن قرية أجهور في وسط الدلتا.
يكتب الحدث في خلفية لأحداث الرواية التي نشرت 1992 وتناولت أحداث مصر من فترة الخمسينيات والمد القومي والثوري حتى سنوات الانفتاح الاقتصادي على يد فاتح أول سفارة صهيونية على النيل، ثم سنوات حكم مبارك حتى زلزال أكتوبر 1992.
الرواية عن الفتاة ذات التي عاشت على عشق والدها لجمال عبد الناصر، وتخرجت في الجامعة مع سنوات السادات وعاشت مع أبنائها خلال عصر مبارك، ويرصد العلاقة بين ذات وحبيبها ثم مع زوجها عبد الحميد، وهي صورة من علاقة مصر والرؤساء الثلاثة، فالحلم الذي غادر مع حبيبها الأول كان ناصريا، ثم كانت علاقة الزواج وأعباؤه في المرحلة الساداتية والمباركية، ويرصد صنع الله أحوال مصر أيضا من خلال الصحف والإذاعة والتلفزيون، أغاني عبد الحليم صوت المرحلة رومانسيا وعاطفيا، الأفلام في السينما، إعلانات الإذاعة والتلفزيون في وثائقية متجددة لدى صنع الله إبراهيم.
في سجن الواحات
يبدو تأثير دراسة السينما التي درسها صنع الله خلال رحلته إلى موسكو من 1971 إلى 1974 واضحا في معظم أعماله التي بلغت 16 عملا بدءا من روايته “يوميات الواحات” التي يرصد فيها جزءا من طفولته وصباه، وتأثير والده الذي يعتبره المدرسة التي تربى فيها بما قدمه له من كتب ودعم لقراءاته، وبتمتعه بالحس الأدبي والسردي، ويتنقل صنع الله في الرواية إلى يوميات سجنه مدة خمس سنوات في سجن الواحات 1959- 1964 التي قضاها في أثناء حكم جمال عبد الناصر في المرحلة التي اعتقل فيها أغلب الشيوعيين في مصر.
في “يوميات الواحات” يرصد الروائي أحداث الفترة من خلال شخصيات سياسية وثقافية مصرية حقيقية وتأثير هذه الفترة التي يقول إنها شكلت صنع الله إبراهيم، رصد الحالة المصرية هنا بأحداثها التاريخية والثقافية من خلال عناوين الصحف والأخبار التي تنشر والشخصيات الموجودة في سجن الواحات.
شهدت الفترة سجن كبار المثقفين والسياسيين المنتمين للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وفيها سجن فؤاد حداد، وسيد خميس، وحسن فؤاد، وعبد الرحمن الخميسي، والممثل علي الشريف، وإسماعيل صبري عبد الله الاقتصادي اليساري الشهير، وسيد حجاب، وعبد الرحمن الأبنودي، وغيرهم كثيرون، ورغم أنه سجن في عهد عبد الناصر ثلاث مرات كانت المرة الأولى والثانية منها عام 1953، والثالثة هي الموثقة في يوميات الواحات؛ فإن موقفه من عبد الناصر ظل إيجابيا حتى اليوم، وهذا الموقف موثق أيضا لدى أغلب الأسماء التي شاركت صنع في سجن الواحات، فهم جميعا كانوا ينتقدون التجربة بمنطق البحث عن الأفضل والأكمل.