وداعا محمد حلمي القاعود.. صاحب القلم الهادئ والفكر الصاخب

الدكتور محمد حلمي القاعود (منصات التواصل)

رحم الله الدكتور محمد حلمي القاعود (1945 – 2025)، الذي فقدته مصر والأوساط الثقافية العربية، فقد عاش خادما للفكرة التي آمن بها وسخر لها قلمه حيث عُدّ من أقوى الأقلام الأدبية والنقدية والفكرية على كافة المستويات الأدبية والدينية والسياسية والاجتماعية.

لم يكن القاعود مجرد أستاذ جامعي متقوقع على ذاته الأدبية بعد أن نال درجة الدكتوراة في البلاغة والنقد والأدب المقارن عام 1984 من كلية دار العلوم؛ وإنما كان أديبا موهوبا حمل فكرة وتحرك بها في هدوء إنساني، ليتسم بذلك قلمه ممزوجا بالقوة المتفردة، فأصبح مؤثرا وموجها دون صخب.

وككل مبدع ظهر نبوغ القاعود اللغوي منذ طفولته فأحب اللغة العربية، وقرأ في سن مبكرة، وكتب القصة في طفولته، لينطلق على إثر ذلك في مسيرته العلمية والأكاديمية في المجال الذي أحبه وأجاده.

مسيرة حافلة بالإبداع

في الكتابة عن الدكتور القاعود رحمه الله نستطيع أن نصفه بأنه الكاتب الشامل، حيث أصدر العشرات من الكتب في العديد من المجالات الإسلامية والأدبية والسياسية والإعلامية والنقد الأدبي، عرفته منابر إعلامية كثيرة قد تبدو في ظاهرها متباينة، وقدم فيها العديد من الدراسات في مجالات متعددة، مثل جريدة الأهرام، وجريدة المساء، وجريدة الوفد، ومجلة الهلال وغيرها.

واستطاع بعبقرية الأديب الواعي أن يخرج لنا مزيجا رائعا بين نصوص القيم الدينية والموروثات الأخلاقية والثقافة الإسلامية الأصيلة، وبين الجمال والبساطة والوضوح والسمو اللغوي دون إسفاف أو تعقيد.

وأما عن حصيلته الأديبة، فقد كتب حوالي عشرين رواية أدبية كان أكثر ما يميزها البساطة، والعمق، والسرد الجاذب، والهدف الإنساني والقيمي، من أشهرها: شجرة الجميز، ومكر الليل والنهار، وشغفها حبا، والرجل الأناني.

وفي الفكر الإسلامي ترك تراثا لا يقل أهمية عن التراث الأدبي الذي خلفه للمكتبة العربية مثل: اخلع إسلامك تعش آمنا، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث، ليكون بذلك ضمن الأقلام التي حافظت على أصالتها واتزانها في وقت ماجت فيه الحركة الثقافية العربية بالتحولات الخطيرة، ولم يثبت فيها إلا القليل.

الفكر الديني لدى القاعود

بالرغم من عدم إعلان القاعود لانتمائه لأي من الحركات الإسلامية الموجودة على الساحة العربية والإسلامية، فإن كتاباته الفكرية اصطبغت بشكل كبير بالصبغة الإسلامية، لكنها كانت صبغة حرة غير مقيدة بأي فكر تنظيمي معروف، يسودها الدفاع المستميت والهادئ في ذات الوقت عن الهوية الإسلامية المطلقة النابعة من مصدرها الأول وعلاقتها بكل ما يتصل بالحداثة. وقد ناقش فيها باهتمام بعض القضايا الشائكة، مثل المحاولات الحثيثة من الليبرالية للالتفاف على الفكر الإسلامي، وتقويض مجموعة القيم الإسلامية لدى العربي المسلم.

من أهم مؤلفات القاعود في هذا الخضم “الليبرالية والعدوان على الإسلام”، و”العلمانية بين الوهم والحقيقة”، إذ أوضح قدرة الإسلام على استيعاب النموذج الحديث لمفهوم المجتمع والدولة وصلاحيته للتطبيق دون صراعات أو تناقضات أو تصادم أو تعطيل لسير المجتمع بطريقة سلسلة.

في دفاعه عن الأدب الإسلامي

وفي وقت سادت فيه المفاهيم الليبرالية بالطريقة العربية المعتادة وكثر فيه الحديث عن الفصل بين الفكر الديني والأدب الحديث بشكل تام منذ ستينيات القرن الماضي، كانت هناك كتابات متناثرة تناقض هذا التوجه من أهمها أدب الدكتور نجيب الكيلاني، وهنا تدخل القاعود بدراسة: “الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني: دراسة نقدية”، حيث عبر عن إيمانه غير المحدود بما يعرف بالأدب الإسلامي وقال في مقدمتها: “إن الأدب الإسلامي بوصفه حركة تجديد لأدبنا المعاصر، وآداب الشعوب الإسلامية الأخرى، يحتاج إلى المزيد من الدراسات والبحوث التطبيقية التي تبرز خصائصه وملامحه، وتساعد على تقديمه للقراء بصورة ساطعة ومركزة، ولعل المهتمين بالأدب الإسلامي أسرفوا في مسألة التنظير وجاء معظم كلامهم متشابها، مع بعض الخلافات الهامشية والجزئية”.

أما في وصفه لأدب الكيلاني كنموذج للأدب الإسلامي فقال: “إن نجيب الكيلاني، من أغزر كتابنا المعاصرين إنتاجا وأجودهم حرفة وأصفاهم تصورا، ومع ذلك ظل مهملا من جانب النقاد والباحثين لفترات طويلة، في الوقت الذي كان فيه المهيمنون على الساحة الأدبية يغدقون اهتمامهم نقدا ودراسة وتعريفا على كتّاب أقل موهبة وأدنى مستوى وأسوأ رؤية، وسبب ذلك بعدهم عن الإسلام، أو ازدراؤهم له، أو تجاهلهم إياه، أو انتماؤهم إلى أيديولوجيات غربية أو مفاهيم ناشزة عن التصور الإسلامي”. والمتأمل لتلك الفقرات للقاعود يستنتج أن الرجل كان أقرب إلى مفكر إسلامي ذي هوية إسلامية واضحة منه إلى مجرد أديب ومفكر عربي معاصر.

الهوية السياسية في فكر القاعود

تتضح الهوية السياسية عند القاعود في ملامح كتاباته السياسية ومقالاته التي لم تتغير تحت ظل الأنظمة التي مرت به في حياته، فقد استندت على خلفيته الإسلامية، ونبعت من فكره الحر، حتى تكاد أن تقرأ فيها نظرية سياسية متفردة، هي ليست مكتوبة بالطبع، وإنما هي مقروءة في مرجعيتها الإسلامية، وارتكازها على مبادئ مركزية يستكمل من خلالها مشروعه الفكري المتكامل المبني على عدة مفاهيم هي:

  • مركزية الفكرة الإسلامية كمرجعية أصيلة.
  • رؤيته أن السيادة للشريعة الإسلامية وليست للأهواء أو الفكر الأجنبي المستورد.
  • رؤيته للأمة أنها مصدر السلطات في إطار الشورى الإسلامية المعروفة عبر عشرات. القرون الماضية وخاصة في فترات ازدهار الإسلام وكونه مرجعية للحكم.
  •  رفضه للاستبداد بكافة صوره الديني والسياسي والأمني.
  •  إيمانه بالعدالة الاجتماعية لكل إنسان مهما كان دينه أو توجهه.

لقد كان الدكتور حلمي القاعود جماعة بمفرده في مواجهة الفكر الغربي الذي يتعارض مع الفكرة الإسلامية التي قدمها بوضوح وبساطة لم يسبقه إليها أحد إلا قلّة من المفكرين الكبار والمتخصصين في مجالاتهم.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان