تجربة شخصية مع فتوى القرضاوي تيسير الموت للمريض

الشيخ يوسف القرضاوي

 

كنت قد نشرت مقالا منذ شهر بعنوان: فتوى القرضاوي الصادمة التي لم أجرؤ على تنفيذها، وهي تتعلق موجزا بما يلي: دخلت ابنتي سارة -رحمها الله- ذات الثلاث سنوات، في غيبوبة، بسبب حادث سيارة قمت به بالخطأ، واستمرت خمس سنوات في غيبوبتها، ولم يكن هناك أمل في شفائها بحسب التقارير الطبية، ودار نقاش مع شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي -رحمه الله-، فنصحنا بأن نكف عن إعطائها الحليب، وكنا نعطيها إياه عن طريق فتحة ركب بها أنبوب من البطن، وناقشته في الأمر كثيرا، وظل مصرا على رأيه، فلم يكن رأيا متعجلا منه، بل كان عن تبصر بالأمر، وفتوى درسها جيدا، وبناها على رؤية فقهية، ولم أجرؤ على العمل بفتواه.

وقد ثار لغط من بعض المعلقين على الفتوى، حين نشرتها، وأن البنت لم تكن على أجهزة إنعاش، فكيف يمنع عنها الحليب حتى تلقى الله؟! وإنصافا للعلم ولشيخنا -رحمه الله-، سأذكر ما لم أذكره في مقالي السابق، فالمقال كتبته من خلال حالة شخصية عشتها مع ابنتي، وكنت في التوقيت نفسه أعيش حالة مماثلة مع ابن آخر لي، لم يكن قد توفي وقت كتابة المقال، بل أعدت مراجعة المقال، وإنهاء ما تبقى منه، وكان ابني يوسف -رحمه الله-، في ساعات الاحتضار.

القرضاوي وفتوى تيسير الموت للمريض:

للقرضاوي فتوى قديمة، نشرها في كتابه: (فتاوى معاصرة) الجزء الثاني منها، في تسعينيات القرن الماضي، بعنوان: (قتل الرحمة أو تيسير الموت للمريض)، وقد أعلن فتواه بحضور عدد كبير من الأطباء والفقهاء المختصين بالموضوع، وفيها تفاصيل كثيرة يرجع إليها، فقد فرّق فيها بين نوعين من تيسير الموت للمريض، النوع الأول وهو الفعال، أي: يتدخل الطبيب بإعطاء المريض أدوية تعجل بالموت، لأنه لا أمل في الشفاء، وهو ما يرفضه القرضاوي لأنه تعجيل بوفاته، وهو لون من القتل.

والنوع الآخر: هو تيسير الموت بإيقاف العلاج، الذي يوقن الطبيب أنه لا جدوى منه يقينا، ولا رجاء فيه للمريض، وفق سنن الله تعالى، وقانون الأسباب والمسببات، وهذا ما يتحدث عنه القرضاوي بالجواز، وهو ما كان يتحدث فيه معي في حالة ابنتي، وفي حالات أخرى مماثلة، ومن ذلك: أجهزة الإنعاش التي يكون عليها المريض، ولا دور لها سوى إطالة مدة الألم، فهو يرى رفعها عن هذه الحالات.

وقد كانت وجهة نظر شيخنا القرضاوي في موضوع ابنتي الذي أشرت إليه في مقالي السابق: أن العلاج لا أثر له، وليست هناك فرصة للتداوي، وأن الحليب الذي نضعه في بطنها عن طريق فتحة بالبطن، هو وسيلة تداوي، وليس غذاء يحتاجه الجسد، وهذا مبني على موقف الفقهاء من التداوي، وبخاصة عند عدم جدوى الدواء، هل يجوز للإنسان الامتناع عنه أم لا؟ وهو ما ينتقل إلى حالات أخرى غير الغيبوبة، كحالات السرطان، والتي يرفض فيها بعض الناس أن يعالج بالكيماوي، ويلجأ إلى وسائل أخرى غير الكيماوي، أو يرفضه بوجه عام، وهو ما بدأت تتجه إليه الأبحاث المعاصرة، وهو ما لاحظته في حالة ابني يوسف -رحمه الله-، وله تجربة أخرى لها علاقة بفتوى الشيخ، أرى من الأمانة أن أذكر أيضا بعض تفاصيلها لتكون فتوى القرضاوي في أكثر من سياق.

لم أنفذ فتوى الشيخ في جانب ونفذتها في جانب آخر:

فرأي القرضاوي كان مبنيا على موقف الفقهاء من التداوي، وهل يجوز ترك التداوي؟ وإن كان رأيه أن التداوي واجب إن كان مجديا، وأنه في حالة عدم الجدوى فالأمر متروك للمريض، بأي الآراء أخذ فلا حرج عليه، ودلل على ذلك بنصوص تراجع في فتواه.

ورغم أني لم آخذ بفتوى القرضاوي في ابنتي سارة، بالامتناع عن إعطائها الحليب، فقد أخذت بفتواه في سياق آخر، فقد انتقلت ابنتي إلى رحمة الله بعد خمس سنوات من الغيبوبة، وقد اتصل بي الطبيب المعالج في الطوارئ، ليجروا لها عمليات إنعاش، بالصدمات الكهربية للقلب، وأنهم قاموا بمحاولتين، دون الرجوع إلي، وإذا أردت مزيدا فلي هذا الحق، فسألني: هل تود أن نفعل ذلك؟ فقلت له: لا، ولو استشرتني في المرات الأولى، ما قبلت، كفى ما عانته ابنتي، ما دام القلب قد توقف، فدعها تلقى مصيرها بغير كثير من الألم، وبالفعل امتنع الطبيب عن إجراء محاولات أخرى.

ابني يصاب بنوع نادر جدا من السرطان:

ومنذ عام ونصف عام تقريبا، مرض ابني الكبير يوسف -رحمه الله- وشخص مرضه بالسرطان، وكان موضعه في الغشاء البريتوني، وهو نوع نادر جدا، يأتي لكل عشرة ملايين شخص يصاب منهم ثلاثة، وهذا السرطان ثلاثة أنواع، أشرسهم وأندرهم هو النوع الذي أصيب به ابني، وعدد المصابين به على مستوى العالم، لا يتعدوا (200) إلى (300) شخص، وهو نوع ليس له دواء، ويعد من أول الإصابة به، يعد مرحلة أخيرة، ولأقدار الله، هذا النوع يصيب الأشخاص من السن الصغيرة وحتى سن (21) عاما، وقد أصاب يوسف ابني وهو في الشهر الأخير من إمكانية إصابته.

وقبل وفاة ابني دخل في غيبوبة من الخامسة فجر يوم وفاته، لينتقل إلى رحمة الله في الخامسة عصرا، وفوجئت عند دخوله الغيبوبة، أنه لم يعلق له محاليل، ولا أي شيء، فسألت في ذلك، فأخبروني أن هذا معناه: أن يوسف قد اختار ألا يفعل معه أي إجراء إنعاش، إذا وصل لهذه المرحلة، وأدركت صواب هذا القرار، الذي أخبرت أنه اتخذه أو اتخذته معه زوجتي، لأنه لم يطل عليه مدة الغيبوبة، ولا الاحتضار، فقد غادر سريعا خلال ساعات قليلة، والحمد لله على كل حال، وربما لو كان هناك قرار آخر، لطالت المدة، واستمرت المعاناة والألم الشديد معها، وقد كانت آلام هذا المرض صعبة التحمل، وهو ما ندرك سر جعل الشرع الحنيف مرضاه من الشهداء، وهو ما برر به العلماء قديما ذلك، بأنه نظرا لشدة ما يعانونه من آلام.

تصحيح فهم لمفهوم الدواء والشفاء:

ما أصابني من قدر الله في ابنتي وابني -رحمهما الله-، جعلني أراجع ما ذكره الشيخ القرضاوي في سياق آخر ربما يغيب عن أذهاننا، وما نقف عنده في مسألتين مهمتين تتعلقان بالمرض، وهما: الدواء والشفاء، إننا نفكر في مفهومهما من خلال عواطفنا، ومن خلال ما نحب نحن، وما يريحنا نحن، لا ما يريح المريض.

الدواء هو العلاج من المرض، سواء بإنهائه، أو بتقليل آثاره، والشفاء: هو انتهاء الألم، وذلك بالنسبة للمريض، لكننا نحصر تفكيرنا في نظرتنا نحن للدواء والشفاء، لم أفكر كثيرا في هذين المعنيين، إلا عندما مرض ابني يوسف، فشاب في ريعان شبابه، ورياضي، فارع الطول، رزقه الله حسن خلقة وخلق، يصاب بمرض يفقده القدرة على الحراك في آخر شهور عمره، وأورام تزداد وتكبر بشكل يزيد من ألمه، كنت أحدث ابني من باب مواساته، بأن عليك أن تتحمل يا يوسف، لا أريد منك سوى أن تتعايش مع المرض مهما طال بك الزمن، حتى يقدر الله لك علاجا يكتشف، وكنت أضرب له نماذج بأشخاص تأقلموا مع السرطان سنين طويلة من أعمارهم.

بعد وفاة ابني، فكرت هل كنت أنانيا في تفكيري، أم كنت أبا تحدوه عاطفته أن يبقى ابنه أطول مدة من الزمن، في ظل ابن شاب متمسك بالحياة بشكل أذهل أطباءه، مع مرض شرس ينهش جسده نهشا؟ وسألتني زوجتي ذات مرة: هل تعتقد بعد كل هذه الأدعية الكثيرة من الناس ليوسف، أن يكون نصيبه الموت من مرضه؟ وكيف نفهم كل هذا الدعاء مع نفاذ قدر الله بالموت؟ لم يطاوعني لساني وقتها للإجابة بما وصلت إليه من هذا المعنى للشفاء بمعناه الديني الشامل، فالكلام حال حياة المريض، يختلف عن الكلام حال انتقاله إلى جوار ربه.

إننا نحصر الشفاء للمريض في بقائه على قيد الحياة، بينما الشفاء الحقيقي للإنسان هو انتهاء ألمه، أيا كانت الطريقة التي تنتهي بها الآلام، سواء بالحياة معافى، أم بالوفاة سعيدا عند ربه، ثم خطر ببالي دعاء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر منه، وهو قوله: “‌واجعل ‌الموت ‌راحة لي من كل شر”، وهو جزء من دعاء طويل، ثم وجدت العلماء يشرحون معنى هذه الجملة تحديدا، فيقولون: أي اجعل موتي سبب خلاصي من مشقة الدنيا، والتخلص من غمومها وهمومها لحصول الراحة، وقالوا: اجعله خيرًا من الحياة التي لا تخلو عن شر، فلا يصيبني شر عذاب القبر، وفتنته، ولا شر النار، لأنه إذا كان الموت دافعا للشرور، قاطعا لها، ففيه الخير الكثير للعبد.

من المؤكد أن هذه المسألة الفقهية المتعلقة بتيسير الموت للمريض، التي نقلت فيها رأي شيخنا القرضاوي، والملابسات المتعلقة به، هي مسألة خلافية بين الفقهاء والأطباء على حد سواء، لكني أردت ذكر ما يحيط بها، سواء من الرأي الفقهي للشيخ، أو الموقف الشخصي الذي كانت فتواه متعلقة به، وحتى لا يحبسني الموقف الشخصي عن نشر موقف فقهي، من باب أمانة العلم ونقله، وبلاغه للناس.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان