الدور القومي العربي لسوريا الجديدة؟

نربأ بأنفسنا أن نقدم دروسا للشعب السوري ولحكومته الجديدة أو نحدد له أدوارا من موقع المتفرج إنما أقسى طموحنا أن نسهم في نقاشات تثار حول سوريا الجديدة، وقد تفجر بعضها مع زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة ومقابلته الرجل الأول في سوريا خصوصا مع ما وضع الزائر لصاحب الأرض من شروط قبول في نادي الشرعيات السياسية.
ورثت سوريا الجديدة سوريا التاريخية بكل مجدها وبكل عاهاتها، ونلاحظ أن أثر العاهات يناقض طموحات المجد التليد لبلاد الشام، وللخروج بالبلد من الحفرة الاقتصادية والاجتماعية تبدو الأدوار التاريخية للبلد عسيرة على التحقق بما قد يقتضي حالة انكماش سياسي أو تخل عن كل دور إلا إعاشة الناس وردهم إلى بيوتهم الخربة، وهي مهمة شاقة ستحتاج وقتا وجهدا بحيث يصير تذكير سوريا بدورها القومي أو بمهامها التاريخية في قيادة المنطقة نوعا من المزايدة على همومها الكثيرة، ويبقى السؤال معلقا حتى حين هل على سوريا القيام بدور قومي في المنطقة وفي (الأمة)؟
رايات أمية
لم نسمع من الرسميين الجدد حديث استعادة دولة أمية العظيمة، ولا حديث استعادة الدور القومي لسوريا، ولكن الجمهور المنتصر والمناصر لا يتوقف عن استذكار المجد التليد وإقحام البلد في متخيل سياسي أقرب إلى تصدير الثورة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل انتهى المشروع النووي الإيراني إلى غير رجعة؟
الضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
يظهر الرئيس وفريقه الحكومي تواضعا كبيرا للقضايا الحارقة، ويرتبون أولوياتهم على معالجة المُلِحِّ منها، كاستعادة المهجرين وإيوائهم وتوفير الضروري من الأمن والقوت لشعب تعرض إلى مذبحة لا سابق لها في التاريخ، ولا تزال فلول النظام الساقط (كما يصفه الرئيس) تخرب الوضع الجديد وتستولي على قسط كبير من الجهد الأمني والعسكري فضلا عن أن عدو سوريا يناوش بشراسة ولا يسمح لها بسلام داخلي.
لهذا بدا اللقاء مع الرئيس الأمريكي ضروريا بل مصيريا، فهو مالك مفتاح الاقتصاد، فرفع العقوبات يطلق قدرات سوريا الاقتصادية التي يتحدث عنها كثيرون بإعجاب وأمل.
يظهر لنا في سوريا الآن توجهان:
توجه رسمي يعمل على الضروري المعيشي ويتنازل عن الروح الثورية التي أوصلت القيادة إلى مكانها، وهذه ترجمة قول الرئيس الشرع انتهت الثورة وبدأت الدولة.
وآخر شعبي يتنفس انتصار الثورة ويفكر في دور أوسع من اللحظة وأكبر من سوريا المخربة، وإن كان يمجد حكمة قيادته المتواضعة فكأنه يمهلها حتى تنجز مهامها الأساسية في انتظار المهمة القومية.
هل سيلتقي التوجهان الرسمي والشعبي في مرحلة لاحقة لإنجاز المهمة القومية أو لاستعادة رايات أمية؟ هذا سؤال يتعلق بمستقبل سوريا ودورها، ومن العسير الجزم بخريطة طريق توضح الأدوار والمهام.
لكن وجبت الإشارة أن ذكر أمية المنتصرة مثل تلميع ضريح صلاح الدين ليس لغوا عابرا، بل هو استدعاء مهمة قومية يزعم أهل الشام أنها مهمتهم التاريخية. خصوصا وأن المنتصرين أسقطوا نظاما بنى شرعيته على هذا الدور القومي، وإن لم ينجزه، بل اكتفى به دعاية سياسية، فلا هو خاض حرب تحرير فلسطين ولا حتى حرر أرضه المحتلة في الجولان مند خمسين سنة. إنما لا يزال المتباكون عليه (وليسوا قلة سورية بل إن بعضهم في تونس) يزايدون به على من أسقطه مصورينه كخائن للقضية القومية، وعندما يطرح عليه “طرمب” خطة تطبيع فإنهم يتطلعون إلى رؤيته في عاصمة الكيان لتدمير سمعته ومنجزه الثوري بمنطق (ألم نقل لكم إنها المؤامرة).
العودة إلى المهمة بأسلحة جديدة.
تحويل رايات سوريا الآن إلى رايات أمية التاريخية ليس جريمة ترتكبها سوريا أو خيانة لشعبها السوري (المنعزل في سوريته)، ونرى التوفيق بين الطموح الشعبي المتحمس وعقل الدولة المتأني ممكنا، لكن بالدخول من باب جديد وفي زمن لا ترسمه المزايدة الخطابية بالقومية والخيانات على الأرض. هنا قد يكون الإبداع السوري (الشامي التاريخي)، وتكون أمية راياتها مرفوعة.
سوريا ستتحرك من داخل ميراث سياسي عربي انقسم منذ الاستقلال إلى جبهتين: واحدة وصفت نفسها بالتقدمية والثورية والنضال من أجل فلسطين، والأخرى وصمت بالرجعية العربية والخيانة، والنقاط الجامعة بين التيارين هي أنهما فشلتا في تنمية الشعوب وإخراجها من آثار الاحتلال، وحاربتا بلا هوادة كل نفس ديمقراطي شعبي وخصوصا تدمير التيارات الإسلامية المعارضة، وفي ذاكرة كل منهما أن التيار الإسلامي هو من بدأ فعلا معركة تحرير فلسطين منذ ما قبل النكبة.
هذه التركة تقع الآن فوق كتف سوريا الجديدة وعليها حملها وهي منعوتة بالإسلامية. دون أن نغفل أن التيارين قد التقيا ضد الثورة السورية وحارباها كل بوسيلته باستثناء دولة قطر التي ابتدعت لها طريقا خاصة في القضايا القومية، ومنها دعم الديمقراطية حيث ما أطلت برأسها دون جعجعة ثورية.
أمام سوريا الجديدة كراسات ضافية كتب فيها فشل من سبقها من الأنظمة من الشقين، وفشل ما استعمل من وسائل، ويمكنها ابتداع طريق مختلفة بوسائل مختلفة، فكيف ستسلك وهي في موقع تدشين مرحلة جديدة بجيل جديد بعقل سياسي جديد؟
هنا قد ترفع رايات أمية لكن ليس بالضرورة بجيوش فاتحة لما حولها أنها مدعوة بحكم التاريخ إلى قيادة أمة، لكن بأسلوبها وهو غير أسلوب القوميين العرب الفاشلين، وقد أجهزت سوريا الجديدة على آخر نظام منهم.
يمكننا تخيل المهمة التالية (ودون دروس من قبلنا). سوريا قوية اقتصاديا ولها ثرواتها ووسائلها ولها قواها العاملة وهي في علمنا وفيرة ومسلحة بتجارب وذكاء شامي (الجميع يمجده ويقدم عليه دلائل من التاريخ). هذه القوة الاقتصادية إذا أفلحت في بناء نفسها من داخل كل الركام المحيط بها يمكنها أن تراكم الثروة وأن تشغل وأن تتاجر وأن تتسلح وتحمي حدودها بما يجعل استرجاع أرضها المحتلة ممكنا. سيأخذ هذا وقتا طويلا بما قد يظهرها منشغلة عن معركة قومية، لكن “الثورجية” المستعجلة جرَّت دوما وبالا على من انتهجها.
القوة الاقتصادية هي مفتاح فعال للقيام بدور وطني وقومي دون ضجة، وهذه القوة تحتاج بناء سلام داخلي وتوجيه القدرات نحو صناعة القوة الاقتصادية التي ستنتج القوة العسكرية وتأخذ الوقت اللازم لذلك. إنها السلاح المختلف بشكل جذري عن منهج من سبق من مدعي الدور القومي ومهمات التحرير الكبرى التي لم تتحقق على الأرض.
وأمام سوريا الجديدة نماذج نجاح دون جعجعة خطابية أهمها النموذج التركي والنموذج القطري، فقوتهما الاقتصادية حولتهما إلى فاعلين مؤثرين في المنطقة وليس الخطابات الثورية. أما إذا أفلحت سوريا في بناء ديمقراطية ثابتة كإطار لاقتصاد قوي فإنها تتحول بالقوة إلى نموذج عربي ينسج عليه ويقلد دون أن تحتاج سوريا إلى تصديره على ظهر دبابة فاتحة، فالشعوب العربية المقهورة متطلعة إلى كل نجاح وقد ملت الجعجعة.
تحتاج سوريا في الأثناء إلى صبر كثير على الثوريين العرب ورثة الكذابين باسم فلسطين. هذا هو الدور القومي المنتظر لسوريا الجديدة ومن هنا يمكنها، وإذا كان الشرع قد قابل “طرمب” بهذه الروح فقد بدأ بعد في رفع راياته.