تسريب عبد الناصر هل يبرئ الإخوان في حادث المنشية؟!

شغل الناس بتسجيل للرئيسين الراحلين: جمال عبد الناصر، ومعمر القذافي، كان يدور حول الحرب مع إسرائيل، وجدوى ذلك، والسعي في مسار آخر، هو مسار المفاوضات، أو عمل علاقة مع الأمريكان، لأنهم يملكون الضغط على الكيان بالانسحاب من الأراضي المحتلة في مصر، وكان تاريخ التسجيل قبل وفاة عبد الناصر بأقل من شهرين.
وشغل الناس بمدى صحة التسجيل، حتى خرج ابنا عبد الناصر هدى وعبد الحكيم، وأكدا صحتها، وأنها تسجيلات موجودة في مكتبة الإسكندرية، ورغم أن ما صدر عن ناصر في التسجيلات، لا يختلف عن الوثائق والشهادات التي خرجت قبل ذلك بكثير، من أن موقف ناصر الأخير، الذي أخبر به ياسر عرفات بعد نكبة 1967م، هو ما قاله ناصر نفسها للقذافي، لكن الناس لا يقرأون، وعدم ارتياحهم للتوقيت الذي نشر فيه جعلهم يذهبون بعيدا عن صحة ما ورد فيه، إلى الدوافع وراء النشر.
عبارة مهمة عن حادث المنشية:
ولكن هناك عبارة قالها عبد الناصر في التسجيل لم ينتبه إليها أحد ممن استمع للتسجيل، وهي قوله عن التفاوض مع إسرائيل: (وممكن ينتج عن هذا واحد بيعتبر عبد الناصر إنه خان، زي 54 زي ما قالوا في إن أنا في اتفاقية الجلاء مع الإنجليز أني خنت لأني اديتهم حق بالاحتفاظ بقاعدة سبع سنين، وطلع واحد ضربني بالرصاص، ووقف محمد نجيب ضد الاتفاقية).
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتجربة شخصية مع فتوى القرضاوي تيسير الموت للمريض
حل حزب العمال الكردستاني.. هل أنهى المخاوف الأمنية لتركيا؟!
“صنع الله إبراهيم” الكتابة على دقات الحروف وصوت المذياع
يشير عبد الناصر في هذه الجملة، إلى حقيقة تاريخية غيبتها المكايدة السياسية، والاستئثار بالسلطة والإعلام، لشيطنة المخالف السياسي، فهو يتحدث عن حادث المنشية، والدافع وراء من قام به، فهنا في لحظة صدق مع صديق يثق فيه ناصر، وبعيدا عن الخطابات الجماهيرية، أو الإعلامية، ضرب مثالا من واقع عاشه بنفسه، وهو محاولة اغتياله، والتي ساق تنظيم الإخوان بأكمله للسجون، وقام بشنق عدد من قياداتها، لم يكن لهم أي علاقة بالحادث، وظلت وسائل الإعلام المعادية للإخوان، وخصومها، يروجون حتى اليوم، أن حادث المنشية كان بهدف الانتقام من عبد الناصر شخصيا، والاستيلاء على الحكم، وأنه هدف إجرامي وسلطوي بحت.
لكن عبد الناصر هنا، يسكِّن الحادث في مكانه الطبيعي والحقيقي، أنه حادث فردي، فقال: قام شخص وأراد قتلي، فهو بالفعل كان تفكيرا فرديا لم يتعد المنفذ والمخطط وكلاهما من الإخوان من التنظيم الخاص، وهما: محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير. ثم النقطة الأخرى المهمة في كلام ناصر، أنه جعله في باب الفعل السياسي الوطني، وليس التآمر الموجه داخليا أو خارجيا، فقد ذكر أن دافع من فعل ذلك أنه ظن أن ناصر خان مصر، باتفاقية الجلاء مع الإنجليز، وأن هذا الموقف لم يكن موقف الساعي لقتله وحده، بل محمد نجيب، وأحزاب سياسية أخرى.
معاش شهري من عبد الناصر لأسرة القاتل:
ومن يراجع شهادات من تعاملوا مع محمود عبد اللطيف الذي حاول قتل عبد الناصر، سيجد ما قاله ناصر في التسجيل، هو اعترافات عبد اللطيف نفسه في التحقيقات تماما، فقد ذكر أحمد حمروش في كتابه (شهود ثورة يوليو) شهادة الضابط أحمد أنور، وهو من الضباط الأحرار، الذي تولى التحقيق مع عبد اللطيف بعد تعذيبه، فقال:
(كان الجو غير ملائم لاجتماع المنشية في الإسكندرية، وقد فوجئنا بإطلاق النار على جمال عبد الناصر، وتم اعتقال محمود عبد اللطيف، وقد اعتدى عليه بعض الضباط بالضرب، ولكنه رفض الاعتراف، رغم أن كمال رفعت هدده بضرب الطبنجة حوله.
وعندما أمرت بتغيير هدومه، وغسيل وجهه، بدأ يعترف بجرأة وشجاعة، وكان مثالا للمصري الذي لا يخشى في الحق شيئا، وقد قال صراحة أنه اعتدى على عبد الناصر مقتنعا بأن اتفاقية الجلاء لم تكن لصالح البلد، وأن معاهدة 1936 أحسن منها.. وبعد مناقشة طويلة اقتنع بخطأ رأيه، ونقم على المحامي هنداوي دوير الذي ضلله).
وعندما فكرت في إرسال عشرة جنيهات لزوجته، قال لي جمال عبد الناصر: “خليهم 15 جنيه كل شهر”.
فقد كان ناصر من داخله مقدرا دوافع عبد اللطيف، لأنها كانت أفكار ناصر السابقة نفسها، فقد سعى لقتل حسين سري لنفس السبب، وقام السادات بالمشاركة في قتل أمين عثمان للسبب نفسه، فقد كانت الحركات الوطنية في تلك المرحلة الزمنية ترى مواجهة الإنجليز والمتعاونين معهم من المصريين، ويرون ذلك عملا وطنيا لا تشوبه شائبة، وقد كان النقراشي أيضا محكوما عليه بالإعدام في جريمة سياسية، فقد كان الزمن آنذاك فيه هذه المساحة من العمل، سواء اتفقنا معها أم اختلفنا، وهذا ما يفسر حرص ناصر أن يصرف معاشا شهريا لزوجة عبد اللطيف، وطلب أن يكون المبلغ 15 جنيها بدلا من عشرة، فهل يعقل أن يكافئ شخص من أراد قتله بمعاش شهري لأسرته، إلا في باب تقدير الشخص لا ما قام به؟!
التحقيقات تثبت تهمة الإخوان الحقيقية:
ومن يرجع للتحقيقات التي أجريت مع المتهمين الآخرين، في ساحة المحكمة، وبخاصة يوسف طلعت، وقد ناقشه وجادله القاضي العسكري جمال سالم، وقال له: لماذا تعارضون عبد الناصر في اتفاقية الجلاء، وهي لا تختلف عن معاهدة 1936م؟ وكان يوسف طلعت نجارا، فقال له: لا يا افندم هناك ثمانية فروق سياسية بين المعاهدتين، وأخذ يشرح له الفروق، وكانت المحاكمات تذاع في الإذاعة، وتفرغ بعد ذلك في كتب بعنوان: محكمة الشعب، فأحس جمال سالم بأنه جاهل، وأن نجارا في التنظيم الخاص للإخوان يعرف الفرق بين الاتفاقيتين، فقال له: اسكت خالص، أتظن نفسك فلانا، وذكر اسم أشهر محلل سياسي مصري آنذاك.
وهي الذريعة نفسها التي اعترف بها عبد الناصر للأستاذ فتحي رضوان، حين أبدى رضوان غضبه من حكم الإعدام على عبد القادر عودة، وإبراهيم الطيب، قبل التنفيذ، وأخبره ناصر أنه يعلم أنه لا علاقة لعودة بموضوع محاولة قتله، ولكنه عقاب على موقفه يوم 9 مارس سنة 1954 يوم أن وقف في شرفة قصر عابدين في المظاهرات، وكان مع محمد نجيب ضد عبد الناصر، وأنه عقاب سياسي لا جنائي، وهو ما ذكره بتفاصيل خطرة جدا فتحي رضوان في شهادته في كتاب: (المثقفون والسلطة في مصر) لغالي شكري، وكيف برر الشيخ الباقوري لعبد الناصر قتل عودة، في شهادة مهمة حول الحادث.
كان تسجيل ناصر مع القذافي، كشأن كثير من بعض تفاصيل تاريخية معاصرة، تعجل كثيرون في الكتابة عنها، دون الإلمام بكل تفاصيلها، وكل اتخذ موقفا سواء الإخوان أو خصومهم، حول حدث معين، بناء على قناعته الشخصية، ودوافع كل طرف، والآن لا نستطيع إعفاء باحث أو كاتب، من النظر إلى هذه الأحداث وغيرها، نظرة تفحص وتأمل، واستقراء، لأداء أمانة التاريخ، وللأسف لا يزال مبدأ: المكايدة السياسية، والنفاق السياسي، يحكم أداء كثيرين في أحداث تاريخية، توجه لخدمة أغراض لا تمت للبحث العلمي النزيه بصلة.