ثمن السلام.. درس السادات لم يتعلمه أبو مازن

الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن (الفرنسية)

محمود عباس أكبر مني بأكثر من ثلاثين سنة، لكن ذاكرتي أضعف من ذاكرته؛ فلا أتذكر وجوده، يمارس وظيفته رئيسا للسلطة الفلسطينية، إلا في مناسبات بروتوكولية، آخرها قبل أيام، في 23 أبريل 2025، في افتتاحه أعمال الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي الفلسطيني.
الرجل العجوز المقبل على سن التسعين منضبط تماما إذا تعلق الأمر بإسرائيل. ولعله يتابع الإبادة المستمرة، منذ ديسمبر 2023، لمليوني فلسطيني في قطاع غزة. كما يعرف عربدة الجيش الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية. وربما يسمع تكتكة المجنزرات من دون فتْح نافذة مكتبه. ويحرص على عقل لسانه الذي فكّ الانفعال عقدته، لائما المقاومة في غزة، مناديا المقاومين: «يا أولاد الكلب».
عباس احتج بالضحايا الفلسطينيين ليطالب المقاومين بتسليم الرهائن، «سُدّوا ذرائعهم، خلّصونا». لن أعلق على سبابه، وإلا سيكون سبابا بسباب. ويحق لحماس أن تردّ فتسبّه وتسبّ إسرائيل، ولديهم سند ميداني يجعلهم أكثر منه انفعالا، وسندٌ قرآني: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم». ما أسهل الشتائم التي يجب على السياسي الحكيم أن يترفع عنها. أعلّق فقط على مَن سمّاهم الرهائن، وعلى سدّ الذرائع. هل هؤلاء رهائن أمْ أسرى؟ أغلب الذين أسَرتهم حماس في السابع من أكتوبر 2023 محاربون يرتدون الزي العسكري، ويحملون السلاح. تتشابه المهام وتختلف ملامح المجلوبين من الشرق والغرب؛ لإسناد المشروع الصهيوني الذي سيعاني أزمة ديموجرافية.
إلى أي مدى يمكن وصف أي إسرائيلي بأنه مدني؟ المسألة بإيجاز أن هناك حدودا تاريخية لدولة اسمها فلسطين، تمكّن كيان عسكري من احتلالها، وبقية المأساة معروفة. فكيف نقول مع القائلين إن الجيش، الذي يمثل آخر احتلال عسكري في العالم، «مجتمع مدني؟».
ما الحدود التي ينتهي فيها المدني ويبدأ العسكري؟ لا حدود واضحة. لا حدود للكيان نفسه في دستوره غير المكتوب.
المدنيون في أي دولة يقضون أعمارهم لا يفكرون في الاضطرار إلى ارتداء الزي العسكري. في إسرائيل ينتظر «المدنيون» أمرا بالاستدعاء للجيش، لا فرق بين مهندس ومدرس ورجل دين وصيدلي وعامل. كلهم قوات احتياط، مدربون على السلاح، ينتظرون الذهاب إلى جبهة القتل، القتل لا القتال. فأي إسرائيلي في حوزة المقاومة إنما هو أسير.
أما سدّ الذرائع فهو وهمٌ في خيالات عباس، ربما من أثر شيخوخة تجعله يلوم الضحايا، ويلتمس الأعذار للقتلة. لم تكن حماس موجودة حين بدأت مجازر الصهانية قبل النكبة وبعدها. إزالة قرى وتغيير معالمها وأسمائها جزء من عقيدة عسكرية لمحو التاريخ وطمس الجغرافيا.

ماذا حصد ياسر عرفات؟

عباس ربما لا تسعفه ذاكرته ولم يكن شاهدا على مجازر واكبت تأسيس الكيان، وكان لا بدّ من إرهاب دولة. لكن إرهاب الدولة استمرّ، وشهد عباس طرفا منه، قبل صعود حماس. لم تكن حماس ولدت حين اغتيل أبو إياد في تونس عام 1985. هل كان غسان كنفاني ينتمي إلى حماس، أو يرتدي الزي العسكري ويحمل السلاح، حين اغتالوه في بيروت عام 1972؟
ماذا حصد ياسر عرفات ثمنا للسلام؟ حوصر وقتل وتمزقت أوصال الضفة الغربية. في نوفمبر 2023 قامت جرافات الجيش الإسرائيلي بجولة تدمير في الضفة الغربية، لعل محمود عباس رآها وقت تنفيذ عملية إزالة معالم ميادين تحمل أسماء الشهداء. في مدينة طولكرم، نسفت الجرافة نصب ياسر عرفات. وعلى مقربة من مدخل مقر السلطة وقف جنود صهاينة يفتشون الفلسطينيين حتى سيارات الإسعاف.
فهل تحقق سلطة منزوعة السيادة الكرامة للفلسطينيين؟ لعل عرفات في حصاره عرف الإجابة وهو يستقبل الموت، وقد تجاهل نصائح عقلاء مقربين، منهم إدوارد سعيد الذي استقال من المجلس الوطني الفلسطيني اعتراضا على سلام عرفات، ووصفه في كتابه «غزة ـ أريحا: سلام أمريكي» بأنها سلام «تحت الوصاية الأمريكية… محصلة للاستسلام العربي، غير الضروري وغير الحتمي». وقال إن الشعب الفلسطيني لن ينال حقوقه إلا عن طريق «الكفاح المباشر لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي».
في مدن الضفة الغربية إذلال لا يخفى على عباس، فيمكنه أن يحقق إنجازا وحيدا، لن يُحسب له سواه وهو مقبل على سن التسعين، بإلغاء كل ما ترتب على أوسلو من ترتيبات، وإعلان الكفاح المسلح. فالعدو لم يلتزم بتعهدات، ولن يقنع بأي تنازلات تقدمها السلطة، وأمامه تجربة تاريخية للمرشد الأمريكي الشرير. كانت أمريكا أول وأكبر هولوكوست في التاريخ. فهل تراجع الرجل الأبيض، حامل الكتاب المقدس، عن استعباد البشر بالسخرة والتعذيب وحرق المتمردين، بعد استقرار الأوضاع وإعلان قيام الولايات المتحدة الأمريكية، وزوال خطر السكان الأصليين؟

ابادة السكان الأصليين

لا تستند الاغتيالات وحروب الإبادة إلى مسوّغات أخلاقية.

في الأمريكتين ونيوزيلاندا وأستراليا نجحت خطط إبادة السكان الأصليين، ومن نجا منهم صار لاجئا في وطنه، يعاني الإقصاء والعنصرية.

يذكر المؤرخ الأمريكي هوارد زن في كتابه «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة» أنه ردًّا على إصرار الرئيس الأمريكي السابع أندرو جاكسون على «إزالة الهنود»، قال هندي يدعى «الثعبان المنقط»، وكان عمره أكبر من مئة عام: «إخوتي! لقد استمعت إلى أحاديث كثيرة لأبينا العظيم. عندما جاء عبر البحار الواسعة، كان رجلا قليل الجسم… كانت قدماه متشنّجتين لطول جلسته في قاربه الكبير، فتوسل إلى الهنود كي يعطوه قطعة أرض صغيرة يوقد عليها ناره… لكنه عندما سرى الدفء المنبعث من نار الهنود في أوصاله وامتلأ جوفه بطعامهم، صار كبير الحجم. وبخطوة واحدة أحاط برجليه الجبال وغطت قدماه السهول والوديان، أما يداه فقد أحاطتا بالبحار الشرقية والغربية، واستراح رأسه على القمر. ثم أصبح هو نفسه أبانا العظيم. أحب أبناءه الحمر وقال لهم: «ابعدوا عني قليلا! إني أخشى أن تدهسكم قدماي.» يا إخوتي! لقد استمعت إلى أحاديث كثيرة من أبينا العظيم، لكنها دائما كانت تبدأ وتنتهي بهذه العبارة: ابعدوا عني قليلا».

يا وحدنا

المقاومة المسلحة شرف إنساني، سبقت إليه دول تمكنت من إزالة الاستعمار، من الجزائر إلى فيتنام. تشابهت غزة وفيتنام رغم اختلاف التوقيت. مبكرا أدرك هوشي منه أن أحدا لن يساعد بلاده على نيل الاستقلال، والشعب يحارب الاحتلال الياباني ثم الفرنسي: «نقف وحيدين.. لا بدّ أن نعتمد على أنفسنا». واعتمدوا على أنفسهم أيضا وهم يقاومون الغزو الأمريكي. تلك حقيقة تأخرت على الفلسطينيين، إلى أن أعلن محمود درويش في «مديح الظل العالي» شعارا يتلخص في كلمة «وحدي»، واعتمد نداء: «يا وحدنا» عنوانا لما بعد حصار بيروت 1982. «لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاءٌ يا صديقي».
للسلام أثمان أكبر من كلفة حروب التحرير. قبل زيارة السادات للقدس عام 1977، أدرك وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي الثمن الفادح لذلك «السلام»، سيكون مصيدة لمصر، وإبعادها عن العرب. أصر السادات، فأبرأ الوزير ذمته بالاستقالة، قبل يومين من الزيارة. وأذاع التلفزيون نبأ تعيين وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد رياض وزيرا للخارجية، لكنه استقال بعد ساعة، ولم يحلف اليمين. فوقع اختيار السادات على محمد إبراهيم كامل الذي نشر مذكرات عنوانها «السلام الضائع في كامب ديفيد» ضمّنها وقائع منها أنه خلال اجتياح الجيش الإسرائيلي لجنوبي لبنان، في مارس 1978، أعدّ بيانا يدين إبادة الفلسطينيين، واتصل بالسادات حتى استيقظ قبيل الظهر، وسأله عن سبب اتصاله المتكرر في الصباح؟ فأبلغه الوزير بالعدوان الإسرائيلي، «فقال السادات ضاحكا: هل أعطوهم العلقة ولا لسه؟… أدبوهم ولا لسه؟ وفهمت أنه يقصد إن كان قد تم للإسرائيليين تلقين الفلسطينيين درسا بسبب العملية التي قام بها الفدائيون داخل إسرائيل منذ أيام. وكان الدم يندفع إلى شرايين رأسي وأنا أجيبه: لقد حدث العكس ولقّن الفلسطينيون الإسرائيليين درسا».
إسماعيل فهمي وزير الخارجية نقل في مذكراته ما نشره وزير الدفاع الإسرائيلي عيزرا وايزمان في كتابه «المعركة من أجل السلام». في مارس 1978، وجه السادات دعوة إلى وايزمان، لإبلاغه باستبعاد «منظمة التحرير من قاموسي.. لا يمكنني أن أقول هذا إلا لك وليس لبيجن؛ لأن بيجن سيعلن في اليوم التالي أن السادات استبعد منظمة التحرير»، وسأله وايزمان: «أفهم أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية؟ فأجاب السادات: تماما.. لا دولة».
عربون المحبة هذا كان ثمنا مبدئيا للسلام، قبل توقيع الاتفاقيات في كامب ديفيد عام 1978. هناك، في كامب ديفيد، ارتكب السادات «مذبحة التنازلات» بنصّ كلام وزير الخارجية المصري الذي قال له السادات: «سأوقع على أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه‏». تحول الرئيس «إلى موظف في حضرة كارتر يتلقى تعليماته‏». راجعه الوزير فغضب، وانفعل قائلا أمام حسن التهامي وحسن كامل وبطرس غالي وأشرف غربال: «وماذا أفعل إذا كان وزير خارجيتي يظن أني أهبل».
بسرعة تحقق ما أبداه إسماعيل فهمي للسادات من تحذير بعزل مصر، واستفراد إسرائيل بالفلسطينيين. بل إن الوفد الإسرائيلي رفض دخول فندق فلسطين في الإسكندرية، وكان «معدًّا للمباحثات لمجرد أنه يحمل اسم فلسطين. وفي المقابل أصر مناحيم بيجن، في ما بعد، على ضرورة عقد المباحثات الخاصة بالحكم الذاتي الفلسطيني في القدس بوصفها عاصمة إسرائيل الأبدية».
ثمن آخر فاضح. في 7 يونيو 1981 دمرت إسرائيل المفاعل النووي العراقي. وقبل الجريمة بثلاثة أيام كان السادات قد قابل مناحيم بيجن في شرم الشيخ. لم يخبر السادات بالإغارة على المفاعل، ولما علم السادات غضب غضبا كوميديا؛ بإيقاف التعاون مع خبراء زراعة إسرائيليين بدأوا عملهم في مايو 1981، في مصر التي اخترعت الزراعة.
أثمان السلام رأس السادات نفسه. أحد الكتبة الساداتيين، لعله أنيس منصور، كتب يوما تلخيصا لهذه المعادلة: «الأرض مقابل السادات». ربما كانت حياة ياسر عرفات أيضا ثمنا لسلام وصفه إدوارد سعيد بأنه «سلام أمريكي».

التفريط في الاستقلال

من أثمان السلام التفريط في الاستقلال، والتبعية التي تحصر مصر في دور وظيفي. مصر في ظل الحروب حافظت على استقلال قرارها، وضمنت لمواطنيها أقدارا إنسانية من الخدمات الصحية والتعليمية. وبعد سنة 1973 لم تخض حربا، ومنذ معاهدة السلام سنة 1979 تتلقى معونة سنوية. وعلى الرغم من المعونة، وربما بسببها، تدهورت الأوضاع التعليمية والصحية والزراعية وبدأت تصفية القطاع الصناعي؛ لفتح الأسواق أمام الاستيراد، ولا تزال الدولة التي لم تعان أزمات غذائية حتى في ظل الحروب منذ 1948 أكبر مستورد للقمح في العالم.
أكتب الآن وأنا أرى مقطع فيديو لوزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير في الكونغرس، يحيطه رجال الأمن لحمايته من محتجين يلاحقونه بهتاف «مجرم حرب»، وينادون بالحرية لفلسطين. من الآثار الإيجابية للمقاومة في غزة اتهام المحكمة الجنائية الدولية لنتنياهو بارتكاب جرائم حرب، وأصبح مطلوبا. الثمن كبير من دماء الفلسطينيين، لكن ما تحقق أكبر. صار اسم فلسطين عنوانا للضمير الإنساني، يتردد في الشوارع والميادين والجامعات والبرلمانات والملاعب. أما ثمن السلام «الأمريكي» فهو الذل والفقر. لعل عباس يتدارك خطايا سابقيه.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان