مصطفى محمد.. الذي قال: لا للمثلية

المصري مصطفى محمد اللاعب بنادي نانت الفرنسي (منصات التواصل)

على مدى الأيام القليلة الماضية، رفعت باريس الرماح واستلت السيوف، في وجه لاعب كرة القدم المصري المحترف؛ بنادي نانت الفرنسي، على خلفية رفضه تأدية مباراة أمام فريق مونبيلييه، لأنها مخصصة لدعم “الشذوذ” الذي يسميه الغرب “المثلية”، ويرى أنه ليس انحرافًا أخلاقيًا ولا مروقًا عن الفطرة السوية، بل مجرد حرية شخصية ينبغي الذود عنها.

المهاجم الشاب برر قراره الذي يتخذه للسنة الثالثة على التوالي، عبر صفحته على شبكة “انستغرام” بأنه يرجع إلى “تمسكه بالعادات والقيم الدينية والأخلاقية التي يسير في حياته من أجلها”، مفصحًا عن أن الأمر ينبثق من هوية ثقافية يعتنقها، وخصوصية حضارية ينحدر إليها، غير أن ذلك التبرير لم يرضِ وزيرة الرياضة الفرنسية التي قالت في تصريحات لصحيفة “لو بارسيان”: “لا عذر لعدم اتخاذ إجراءات فورية حاسمة لإدانة رهاب المثلية في الرياضة، وخاصةً في كرة القدم”، وطالبت إدارة نانت بتوقيع عقوبة مالية على اللاعب.

من جهته لم يكذِّب النادي خبرًا، إذ أعلن من فوره توقيع العقوبة على مهاجمه، كاشفًا عن أن ما اختُصم منه، سيتم التبرع به إلى إحدى الجمعيات الداعمة للمثلية.

إلى جانب موقف الوزيرة الذي يعبر بالضرورة عن حكومة بلادها، وموقف النادي الذي استجاب لها، ارتفع وطيس المعركة على الصعيد الإعلامي، فإذا بالكتَّاب الرياضيين يكيلون الاتهامات للمهاجم الذي يتخاذل عن مباراة مهمة، ستحسم مسألة هبوط أو نجاة فريقه من دوري الدرجة الثانية، على الرغم من أنه مرتبط بعقد معه “ويتقاضى المال مقابل ذلك”، وهي مقولة باطل يراد بها أن تبدو الأزمة مجرد أزمة “إخلال بشروط التعاقد”، في حين أن وراءها نبرة “استعبادية”.

صحيحٌ أن مصطفى محمد يتقاضى الأموال من ناديه، لكن ذلك أجره على كونه لاعبًا محترفًا، له وظيفة في الملعب، وهذا لا يقتضي منه السمع والطاعة في شتى الأوقات والظروف، لكن فرنسا الرسمية والإعلامية ارتأت أن عليه أن ينصاع صاغرًا لمبادئ المجتمع الفرنسي ومنظومته الأخلاقية، ولتذهب هويته بعدئذٍ إلى الجحيم.

فرنسا بلاد الحريات التي تفاخر بتصدير مبادئ ثورتها إلى العالم، تعادي شابًا لمجرد أنه لا يؤمن بما تؤمن به، وتمارس القمع عليه، لمجرد أنه يأبى أن يدعم الشذوذ، لأسباب تتصل بهويته وخصوصيته الحضارية التي تنص عليها المبادئ الدولية، ومنها مبادئ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو”، التي يقع مقرها في قلب العاصمة باريس، على ضرورة مراعاتها واحترامها.

المقارنة مع حرية “شارلي إبدو”

فرنسا التي انتفضت لدعم صحيفة “شارلي إبدو” بعد نشرها رسومات كاريكاتير مسيئة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصعَّرت خدها ومطت بوزها أمام دعوة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، إلى عدم التطاول على الرموز الدينية، حفظًا للمحبة بين الشعوب، وهي أصل رسالة السيد المسيح، وتذرعت بحرية التعبير عن الرأي لرفض ذلك، لم تستنكف عن الحجر على رأي مصطفى محمد الشخصي، ولم تتورع عن تأثيمه لمجرد أنه يرفض أن يكون جزءًا من مشهد يتنافى مع معتقداته.

كذلك تلوك فرنسا ومعها “الغرب الحر” بأسره، ذريعة حرية الرأي، كما تلوك بنات الهوى اللبان “العلكة” في طرقات حي بيغال الباريسي الشهير.

الحرية يجب أن تكون على المقاس الغربي، فأنت لست حرًا في رفض المثلية، بل لست حرًا حتى في الامتناع عن دعمها.

يحدث ذلك في البلاد التي وصفها الرعيل الأول من المبتعثين العرب للدراسة في جماعاتها، بأنها بلاد النور التي لا أسلاك شائكة تمنع الخوض في أي نقاش بما في ذلك النقاش حول وجود الله.

الهولوكوست والمثلية خط أحمر

لكن رغم هذا السقف المرتفع تبقى قضيتان لا يُقبل المساس بهما في فرنسا، ومعها الغرب بأسره، وهما المثلية والهولوكوست.

هل هناك ارتباط بين القضيتين؟ أو بالأحرى هل الجهة التي تسبغ عليهما الحماية جهة واحدة؟

بعض التأويلات التي تتبنى نظرية المؤامرة تقرر ذلك، وتستند إلى أن هناك جهة ما، ربما الصهيونية أو الماسونية، تتوخى تحطيم هرم القيم الأخلاقية، على وجه الأرض.

بغض النظر عن صحة أو خطأ ذلك، فالشاهد أن حرية التعبير توضع في الأغلال متى تطرقت إلى المثلية أو الصهيونية، ولا شيء سواهما من بعد ومن قبل.

تقمع بلاد الحريات مناهضي المثلية، ومناهضي الصهيونية على السواء، وإن تفاوتت مستويات القمع.

في حالة المثلية قد يتعرض رافضوها إلى غرامات مالية، كما حدث مع المحترف المصري وغيره، لكن في حالة الصهيونية يُغتال مناهضوها معنويًا، اغتيالًا وحشيًا لا يرحم، على غرار ما حدث للباحث رجاء غارودي، بعد نشره كتاب “الأساطير والمؤسساتية لدولة إسرائيل”.

هي حرية كما تحب إسرائيل وتهوى إذن، وهي أيضًا حرية وفق المقاييس الغربية، التي ترفض أن يكون أصحاب الرأي الآخر أحرارًا، في ما يعتنقون وفي ما يتخذون من قرارت ذاتية.

على هذا الأساس لا تبدو أزمة مصطفى محمد مع ناديه، مجرد أزمة رياضية تتعلق بحدث ظرفي يتمثل في مباراة يرفض خوضها لأسباب لا شك في موضوعيتها وقوتها، بل هي أزمة الغرب الذي يتشدق بالحرية وفق مقاييس ترمي أصلًا إلى مسخ هوية الآخر، ومحو خصوصيته الثقافية، وفي ذلك بالطبع ظلال قاتمة لخرافات تفوق الرجل الأبيض، وسمو الحضارة الغربية التي تزدري كل ما هو ليس غربيًا، من دون أن تتخلى عن نظرتها الاستعمارية المقيتة إلى الشعوب الأخرى.

والمثير للانتباه أن أزمة الغرب المعيارية تلك توازيها في الوقت الراهن، حالة من الانسحاق العربي، الناجم عن “عقدة الخواجه” التي يعاني منها “نخبيون عرب” على غرار إبراهيم عيسي وخالد منتصر ومن لف لفهما من رموز هذا العصر الرديء، الذي يتصدره مرضى بالدونية الحضارية والثقافية، ينظرون إلى كل ما هو غربي وكأنه “تمام التحضر والرقي”، ويُرجعون ما يعتري “خير أمةٍ أخرجت للناس” من ضعف وهوان، إلى أنها لم تخلع عنها هويتها، ولم تتنصل من ثقافتها.

غير أن هؤلاء وما يمثلونه من ظاهرة صوتية في واقعنا الثقافي والإعلامي، لا يمثلون ظاهرة طارئة، وإن كانوا اليوم أكثر سفورًا في التعبير عن أمراضهم المزمنة، فقد رصد عميد الأدب العربي قبل نحو قرن من الزمان أشباههم، حين أدخل مصطلح “الفرنسة” إلى العربية، معتبرًا أن الفرنسة هي الانسحاق في الثقافة الفرنسية، من قبل أفواج الدارسين المصريين الذين سافروا إلى باريس، فخلعوا عنهم كل ما هو عربي على أرصفة شارل ديغول.

رياح التغريب الثقافي تهب على المشرق العربي منذ زمان بعيد إذن، يفتح لها الأبواب مثقفون أو قل “متثاقفون عرب”، لكنها رغم ذلك لم تحرِّك ذرة رمل من مكانها، ذلك أن الوجدان الجمعي والضمير الجمعي والأصالة الثقافية تنحاز دائمًا إلى الفطرة الإنسانية والهوية الثقافية السائدة شعبيًا، ويصطف مع البسطاء الذين يجهرون مثل مصطفى محمد في وجه القمع الغربي: لا للمثلية.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان