انتبه «دافوني» سلّم قلعة أرضروم

بينما سيف “بايجو نويان” القائد المغولي على رقبة القائد الشجاع السلجوقي “سنان”، قائد قلعة أرضروم القوية، بعد انهيار أسوارها فجأة، سأله بايجو:
ـ هذه هي القلعة التي قلت إنك لن تسلمها تحت حكمي، وها أنت الآن تحت سيفي. فهل لك طلب قبل أن تموت؟
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل انتهى المشروع النووي الإيراني إلى غير رجعة؟
الضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أجابه صاحب الرأس المرفوع تحت سيوف جيش المغول الدموي:
ـ لي سؤال وطلب. أما السؤال: فكيف تحطمت أسوار القلعة وانهارت من الداخل؟
أجابه بايجو:
ـ الخيانة. القائد الشجاع هو من يبني أسوارًا قوية يثق بها، ويختار قادة أقوياء يثق بهم ولا يخونونه.
الخيانة خلفك
سأله سنان:
ـ من؟
أجابه بايجو:
ـ دافوني.
مهزوم لا محالة
انهارت الدنيا تحت قدمَي الفارس الشجاع سنان، فـ”دافوني” هو نائبه، وأقرب قواده إليه، ومحط ثقته داخل القلعة الحصينة التي يعدّها سلطان السلاجقة في قونية خط دفاعه الأول عن مملكته، وقد اختار قائدها المخلص “سنان” من بين قواده، وسقوطها يعني طريقًا مفتوحًا أمام دولته. كانت الثقة في أسوارها وقائدها بلا حدود. فكيف حدث هذا؟
بعد معركة قوية تكبد فيها المغول أربعة آلاف قتيل، ومثلهم من المصابين، وأيقن بايجو أنه مهزوم لا محالة ـخاصة بعد وصول إمدادات السلطان “غياث الدين كيخسرو” الخارجة من قونيةـ كان لـ”دافوني” رأي آخر، فقد تواصل مع “نويان” وقدّم له عرضه:
ـ أفتح لك أبواب القلعة، وأصبح حاكمها تحت أمرتك.
وكأنها نجدة لـ”نويان” الذي كان موقنًا بعدم قدرته على فتحها والمضي نحو قونية.
أجاب “نويان” عن سؤال القائد الذي لم يستسلم حتى بعد انهيار الأسوار بفعل “السحر الأسود”، وهو تراب مشرب بالجاز يشتعل فتتحول الأحجار إلى رماد. تملّك الغضب قائد القلعة الذي نظر حوله، فوجد “دافوني” ينتظر مكافأة الخيانة.
سأل “بايجو”:
ـ ما هو طلبك الأخير؟
أجابه:
ـ أريد أن أتطهر وأصلي، لعل الله يقبل شهادتي.
قراءة درامية وتاريخية
مشاهد قصيرة عدة في العمل الدرامي التركي مولانا جلال الدين الرومي، الذي يتناول حياته في قونية وقصة لقائه مع مرشده ونصفه الروحي المكمّل “شمس الدين التبريزي”. كنت قد شاهدت الموسم الأول منذ عامين، وكتبت قراءة له ولرواية أليف شفق قواعد العشق الأربعون عن اللقاء بين الرومي والتبريزي.
حاولت خلال العامين الوصول إلى الجزء الثاني من العمل، الذي يتكون من عشر حلقات (مدتها عشر ساعات)، ولم أتمكن من ذلك، حتى فوجئت بعرضه على إحدى المنصات التلفزيونية، فالتهمته في ليلتين، وبدأت أعيد قراءة العمل الذي لم يكتمل حتى الآن، لغياب الجزء الثالث، وشاهدته مرة أخرى.
الجيد في الأعمال التاريخية التركية التي تتناول سير أئمة الصوفية وشيوخها الكبار، هو تقديمها للأحداث السياسية التاريخية المحيطة بالشخصية، دون أن تهمل الجانب المعنوي الذي تقدمه الشخصية الصوفية لجيوش الدولة الإسلامية (السلجوقية)، سواء في معارك الفتح أو مواجهة خطر المغول القادم من الشرق.
في حلقات الموسم الثاني من مولانا جلال الرومي، جاءت معارك “غياث الدين كيخسرو” مع جيش المغول دفاعًا عن قونية، وانتهت بصلح مع المغول بسبب تخلي أمراء الولايات عن دعمه، بزعم الحفاظ على الشعب من دموية المغول، لكن الواقع أن المغول لم يكونوا يرحمون، فقد كانوا يحرقون البيوت ويقتلون النساء والأطفال.
في هذا الجزء، ظهرت شخصية “أرطغرل بن سليمان شاه”، الذي قدم من قبيلة “الكايي” غربًا على حدود الإمبراطورية البيزنطية لمساعدة كيخسرو ضد المغول، وظهرت أيضًا شخصية “الشيخ أديب علي”، والد السلطانة “بالا”، زوجة عثمان بن أرطغرل، مؤسس الدولة العثمانية.
الدولة والدراما
تتناول الدراما التركية التاريخية قصة بناء الدولة منذ عهد الدولة السلجوقية، ومرورًا بالقبائل التركية، حتى اكتمال الدولة العثمانية. أكثر من عشرة أعمال تناولت ذلك، منها:
ـ آلب أرسلان، أرطغرل، المؤسس عثمان، حريم السلطان، السلطان عبد الحميد، خير الدين بربروس، مولانا جلال الدين، الفتح العظيم، يونس أمره، سلطان وفا، حاجي بيرم، وأخيرًا سلطان الفتوحات.
تتضافر في هذه الأعمال القوة العسكرية المؤمنة مع القوة الروحية.
رئيس القضاء: دافوني جديد
حادث “دافوني” لم يكن مجرد عرض درامي، بل يمثل ظاهرة متكررة في التاريخ، ففي العمل نفسه، يظهر “شمس الدين الأصفهاني” رئيس القضاء لدى “غياث الدين كيخسرو”، وهو أقرب المقربين إلى مجلس السلطان. رغم أن أغلب المجلس كان يعارضه، فإن السلطان دائمًا ما ينفذ رأيه.
غالبًا ما يفضل السلاطين والرؤساء من يزيّفون الحقائق ويمدحونهم، ويجعلونهم الأذكى والأعظم. هكذا كان الأصفهاني.
الوزير، وقائد الجيش “عمر أتابك”، ونائب السلطان “كايمار”، يقفون في طرف ينصحون بصدق، ومعهم مولانا جلال الدين الرومي. بينما يوسوس الأصفهاني في الطرف الآخر، طامعًا في كرسي السلطنة، بدعم مغولي، فيميل السلطان إلى الطرف المخادع ويهمل الصادقين، ويجرّه الأصفهاني إلى هزيمة منكرة أمام المغول.
حتى حياته الشخصية تعرضت للخطر، زوجته وولي عهده قُتلا بالسم في وجود الأصفهاني فقط في القصر، وعندما عاد متنكّرًا، خدعه الأصفهاني مجددًا، وأقنعه أن “أمين الخزانة” هو من تآمر عليه.
رغم الشكوك المتزايدة، لم يصدق السلطان حتى اللحظة الأخيرة، حين وضع الأصفهاني الخنجر في قلبه، وصرخ السلطان صرخته الشهيرة:
ـ “حتى أنت يا بروتس!”
كلمة أخيرة
الدراما، خصوصًا التاريخية، لا تفتح الأبواب كلها دفعة واحدة. أحيانًا تكفي مشاهد قصيرة للإشارة إلى أحداث كبيرة. قد يلتقطها كاتب آخر ليصنع منها عملًا متكاملًا.
قيمة الأعمال الكبيرة تكمن في النصوص التي تتحاور بها الشخصيات. بعض الأعمال تتوقف أمام كل جملة ومغزاها، وبعضها يكون بلا مضمون. الفرق دائمًا في الكاتب والمخرج.
المبدع الحقيقي يدرك قيمة الكلمة، والمخرج يدرك قيمة الصورة.
والكلمة والصورة، أخطر ما يكون على النشء والمتلقي.
فاحترس من كلمتك.