الشريعة وميراث حفيدات الدجوي

لم يكن لمصر حديث في الأيام الماضية، سوى عن حادثة سرقة كبيرة جدا، حيث المبلغ المسروق وقيمته التي تبلغ خمسين مليونا من الجنيهات، وثلاثة ملايين من الدولارات، وخمسة عشر كيلو جراما من الذهب، وهو مجموع مالي كبير جدا، سرق من “فيلا” الدكتورة نوال الدجوي، وذهب كثير من الناس للحديث عن سر احتفاظ السيدة بالمال في بيتها، ومدى الثقة في البنوك أو عدم الثقة، وهي تحليلات مبنية على وضع مصر الاقتصادي، وليس مبنيا على حقيقة الحالة.
مشكلة بلا مشكلة:
الحالة كما اتضح فيما بعد، أن السيدة نوال الدجوي، لها أولاد ماتوا في حياتها، لها ابن وبنت، كما أعلن عن ذلك، ولها أحفاد من البنت والابن، ومات أبناؤها الذكور والإناث، وبقي على قيد الحياة الأحفاد من البنت والابن، وبذلك ستكون التركة عند الوفاة بحكم قانون الميراث المصري الذي يسير وفق المذاهب الأربعة السنية، فستؤول التركة كلها لأبناء الابن، ولن يكون لأبناء وبنات البنت إرث، إلا من باب الوصية الواجبة، وهو قانون اجتهد فيه الفقهاء المصريون في عشرينيات القرن العشرين، متخذين من المذهب الجعفري مستندا فقهيا له، يقضي بأن يرث الأحفاد الذين مات أبوهم في حياة الجد، ميراث أبيهم كما لو كان حيا، شريطة ألا يزيد عن الثلث.
فأرادت نوال الدجوي أن تحفظ حق الحفيدات من البنات، بسحب المال ووضعه في بيتها، في ظل ما أشيع عن رفع أحفاد آخرين لها قضية حجر عليها، وبدأ كثير من الناس يثير سؤالا: هل هذا من العدل مع الأحفاد، أن يرث حفيد ولا يرث آخر، يرث من أتى من نسل الابن، ولا يرث من أتى من نسل البنت؟
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
وثار جدل ومشكلة من لا مشكلة، فإن حفيدات نوال الدجوي من ابنتها، إذا لم يرثن بحكم الفرائض، فإنهن يرثن من طريق آخر، وبالقانون المصري، وهو قانون الوصية الواجبة، الذي يعطي لأبناء البنت إرثا في حدود الثلث، إذا كانوا محرومين من الإرث، وهو قانون يسري في مصر ويطبق منذ سنين طويلة، ولو رحنا نحسب ماذا سيحصلن عليه من الإرث؟ سنجده هو ما كانوا سيرثونه نفسه لو كانت أمهم حية ترث جدتهم، فقد تركت الأم هنا: ابنا وبنتا، فطبيعي أن تكون القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين، فللذكر الثلثان، وللأنثى الثلث، وقد مات الابن فسيرث الأحفاد الذكور، الثلثان، ويرث الأحفاد من ابنتها بالوصية الواجبة نصيب الأم لو كانت حية، وهو الثلث، وقانون الوصية يجيز في حدود الثلث، يعني عمليا وقانونيا: الحكم هنا نفسه، فما الذي دفع الناس للتسرع في الحكم؟!
ميراث البنات والعصبات أكثر إثارة:
وبغض النظر عن حدث نوال الدجوي وورثتها وارتباطه بشخصيات معينة، لكنه فتح بابا للنقاش حول الموضوع من جهة أخرى غابت عن الحديث، وهو مطروح في كل مناسبة تتشابك مع هذا الموقف، وأقرب منه في الطرح قضية ميراث العصبات، وبخاصة مسألة ميراث البنت عند انفرادها، أو البنات ولا يوجد أخ ذكر لهن، ويوجد عم أو أحد الأقارب من جهة الأب، كثر السؤال عنها في أزماننا الحالية، ولم تكن تطرح من قبل، وبخاصة في الأزمان التي كان فيها الأعمام والأقارب يقومون بواجبهم نحو بنات الأخ، أو بنات العائلة، وهذه المسألة من المسائل ذات الخلاف الشديد بين المذاهب السنية والمذهب الجعفري الشيعي، فهي مسألة ذات نقاش ديني فقهي وسياسي ومذهبي، لكننا نناقش هنا الشق الفقهي، ولسنا معنيين بالشق السياسي وأسبابه، وإن ذكرناه مختصرا، فمن باب الإلمام بالقضية وأبعادها المختلفة.
أما المذاهب السنية مجتمعة، والمعمول به في القانون المصري، فيقضي بأن البنت إذا كانت منفردة ترث نصف التركة، وإن كانت بنتان أو أكثر فلهن الثلثان، وتؤول بقية التركة لأصحاب الفروض الآخرين، والباقي يذهب للعم تعصيبا، أو لأقرب ذكر في العائلة من جهة الأب، سواء من أبناء العمومة، أو الأقارب الذكور. أما المذهب الجعفري فيرى أن البنت إذا انفردت وليس لها أخ، فعندئذ تأخذ النصف، وما يتبقى من التركة، بعد أصحاب الفروض، ولو ترك الميت بنتين أو أكثر يأخذن الثلثين، وما تبقى من التركة بعد أصحاب الفروض.
وكنت منذ سنوات بحثت الموضوع، بالنظر لأدلة الفريقين في المسألة، وكتبت فيه بحثا، لم أنشره، لأنه لا سياق علمي أو مجتمعي له، وعندما طرح موضوع مدونة الأسرة في المملكة المغربية، طلبه بعض الأصدقاء من أهل العلم مني، وأعطيته لهم من باب التبادل الفكري، ولكني توقفت وقتها عن نشره، حتى لا يكون داعما لتوجه سياسي معين، أو يوظف لسياق آخر غير ما كتب له.
من غيروا مذهبهم لعلة إرث البنات:
وبسبب هذه المسألة لاحظت أن هناك ما يشبه ظاهرة محدودة في بعض البلدان التي يطبق فيها القانون حسب المذهب الفقهي، كما في بلدان يوجد فيها الشيعة والسنة بنسبة متقاربة، مثل: العراق، ولبنان، وغيرهما، فقد لوحظ إجراء يقوم به بعض الرجال، ومنهم من تولى مناصب كبيرة تصل لرئاسة الوزراء، حيث قام بتغيير مذهبه من سني لشيعي جعفري، وذلك لأن ورثته بنات فقط، ويخشى من ذهاب جزء من الثروة لغير البنات، ومعظم هذه الحالات يغيّر المذهب على الورق فقط، لكن اعتقاده وتدينه على مذهبه القديم كما هو، فهي حيلة قانونية أكثر منها قناعة.
هل النقاش في مثل هذه القضايا مشكلة؟!
والحقيقة أن قضايا المرأة بوجه عام، وقضايا المواريث بشكل خاص، مثار نقاش منذ عهد الصحابة، إلى عصرنا، وبخاصة في النصوص التي تحتمل وجهين، أما ما لا يحتمل إلا وجها واحدا، فلم يدر فيها أي خلاف على مدار تاريخنا الإسلامي، إلا من بعض من يتكلمون عن هوى فيها، ولأن الميراث قضية مالية، والمال موضع خلاف بين الناس، وستظل كذلك، فقد كانت أول قضية فقهية أثيرت بعد وفاة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، كانت قضية الميراث، إذا نظرنا إلى قضية الخلافة من منظور سياسي، فإن ميراث السيدة فاطمة -رضي الله عنها- من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان أول ما أثير من قضايا فقهية.
ولم يقف الأمر بعد ذلك عند فاطمة -رضي الله عنها-، بل ظلت مسائل الميراث تثار، أو تكون في موضع نقاش وقلق فقهي لدى بعض الصحابة الفقهاء، فقد كان عمر -رضي الله عنه- حتى وفاته يتساءل عن الكلالة، فقال: “إني والله لَا أدع شيئا أهم إليَّ من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بأصبعه في جنبي أو في صدري، ثم قال: “يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء”، وقد فسر الطاهر ابن عاشور تحير عمر في الكلالة فقال: (وليس تحير عمر في أمر الكلالة بتحير في فهم ما ذكره الله تعالى في كتابه، ولكنه في اندراج ما لم يذكره القرآن تحت ما ذكره بالقياس).
وورد الأمر نفسه عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقد كان في نفسه حاجة من عدم توريث العمة والخالة، أو بنت الأخ، فقال أبو بكر: “ووددت أني كنت سألته عن ميراث العمة وابنة الأخ، فإن في نفسي منها حاجة”.
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: دخلت على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في مرضه الذي مات فيه أعوده، فسمعته يقول: “وددت أني سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ميراث العمة والخالة فإن في نفسي منها حاجة”، رغم ورود حديث أيضا لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في العمة والخالة: لا ميراث لهما.
وأعتقد أن مثل هذه الأحداث هي أسباب لفتح باب التفكير والنقاش الفقهي في مثيلاتها، وكثير من القضايا التي برزت فيها تجديدات فقهية، وفق أدوات التجديد المعتبرة وآلياته، برزت في مثل هذه الحالات، بعيدا عن التوجيه السياسي أو الأيديولوجي المسبق من الموضوع، ثم بعد ذلك يأتي القانون ليستفيد من ذلك كله، بوضع ما يقيم ميزان العدل إلى أقرب حالاته، فليس هناك من يستطيع أن يجزم بإصابته العدل كله، أو الصواب كله.
وقد رأينا اجتهادات مهمة في المغرب العربي في قضايا الأسرة، نتجت عن تأمل فقهي معتبر، في قضية: الكد والسعاية بالنسبة للزوجة الشريكة في ثروة الرجل، واجتهاد آخر في قضية إرث البنات لو كان المتروك فقط منزل السكنى، فهل يقاسمهن فيه الأعمام، أو يخرج البيت خارج الإرث، ويتملكنه البنات دون الأعمام؟ وسوف نعرض له في سياقه إن شاء الله، أما قضية العصبات وهي عمدة الموضوع، فتحتاج لنقاش مستفيض نتناوله في مقالات مقبلة إن شاء الله.