قرار تسوية أراضي الضفة.. إذن رسمي للاستيلاء

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

دخل الاحتلال الإسرائيلي عامه الثامن والسبعين، مثقلاً بإرث دموي من القتل والاقتلاع والتهجير، في وقت مرت فيه ذكرى نكبة العرب بهدوء غير مسبوق، فيما تتوالى نكبات جديدة على الشعب الفلسطيني بأدوات جديدة وشركاء قدامى وجدد، في مشهد يعيد انتاج الظلم.

وفي الوقت الذي تواجه فيه غزة، واقعاً مريراً هدفه الإقصاء أو التهجير، يجهز الاحتلال الإسرائيلي لنكبة أخرى في الضفة الغربية، تُطبخ على نار هادئة، ترافقت مع جولة ترامب في المنطقة، إذ مرّر الكنيست الإسرائيلي قرار “تسوية الحقوق العقارية وتسجيل الأراضي في الضفة الغربية”، وهو ذات القرار الذي رفضته المحكمة الإسرائيلية قبل أربع سنوات بضغط من 17 مجلساً قرويّاً فلسطينيًا ومنظمات حقوقية، ليعود اليوم بثوب جديد.

ماذا يعني هذا القرار؟

ببساطة إنه سرقة لأراضي الضفة تحت مصوغات وضعها الاحتلال وفقاً لمعاييره تحت مسمى تنظيم الأراضي وإعادة مسحها، قرار يجبر أصحاب الأراضي على إعادة نبش أوراقهم ومستنداتهم وحججهم لإثبات أنهم أصحاب الأرض، أملا أن يقتنع المحتل بهذه الحجج ويتركهم بسلام.

وبموجب هذا القرار، ستُجرى عمليات مسح جديدة للأراضي، وعلى الفلسطينيين أن يتوجهوا إلى “الإدارة المدنية” التابعة للجيش الإسرائيلي لتقديم إثباتات ملكيتهم. المشكلة هنا أن بعض سندات الملكية القديمة، بما فيها تلك المسجلة منذ العهد العثماني أو الأردني، لا يعترف بها الاحتلال، ما يعني أن عبء الإثبات بات مرة أخرى على صاحب الأرض الفلسطيني، في ظل جهة إسرائيلية لا تخفي انحيازها لصالح التوسّع الاستيطاني.

ولأن الاحتلال الإسرائيلي الآن وصل لدرجة من العنجهية التي لم تعد تفلح معها لا قرارات مجلس الأمن ولا الجنائية الدولية ولا أمريكا نفسها، فقد رأى الكنيست وبضغط من اليمين المتطرف وعلى رأسه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أنه آن الآوان لتمرير تسوية الأراضي بما يضمن الزحف البطيء، ذلك الذي يعني مصادرة آلاف الكيلومترات من أراضي الضفة، استعداداً لتنفيذ خطة تهجير متوازية مع الإبادة في غزة.

تفاصيل شكلية

في الحقيقة، القرار الجديد لا يُعير اهتماماً لما يحمله الفلسطيني من أوراق ثبوتية أو وثائق وراثة أو حتى حجج قانونية ممهورة بكل ما يخطر على البال من أختام رسمية. لا شيء من ذلك يُقنع من قرر مسبقاً أن الأرض له وأن الورق يجب أن يكون ورقه، وأن كل ما تبقى مجرد تفاصيل شكلية. فعندما تكون الغاية هي السطو على الأرض، تتحول كل الأدلة إلى عبء مزعج، وكل الحقوق إلى “عوائق قانونية” يجب التخلص منها. باختصار: عندما يكون الهدف هو السرقة، لا يعود لأي منطق أو قانون أو وثيقة أي قيمة تُذكر.

ولإضفاء شرعية شكلية، تلجأ إسرائيل لقوانين من العهد العثماني أحياناً أو الانتداب البريطاني، إذا كانت لصالحها، متجاهلة القانون الأردني لعام 1964 الذي نُفّذ فعلياً في الضفة قبل 1967، وتوقف بعد الاحتلال، كما تتجاهل عمليات التسوية التي نفذتها السلطة الفلسطينية بعد أوسلو، ببساطة، الاحتلال يختار من القوانين ما يخدم مشروعه الاستيطاني، ويقنع العالم بأنه يتصرّف ضمن “نظام قانوني”، لكنه في حقيقته مصمم لسرقة الأراضي.

أبرز الحيل القانونية المستخدمة هي تصنيف الأراضي كـ “مشاع” أو “متروكة”، وبالتالي إعلانها أراضي دولة، خاصة إن لم تكن مسجلة رسمياً باسم أصحابها الذين جاهدوا سنوات لتسجيلها مع رفض السلطات الإسرائيلية لأسباب مختلفة ومتغيرة، وبما أن الاستيلاء العسكري المؤقت على الأرض لا يجيز تحويلها لأغراض مدنية وفق قرار المحكمة العليا الإسرائيلية عام 1979، تُستخدم آلية “أراضي الدولة” كغطاء قانوني دائم لنهب الأراضي لصالح الاستيطان.

وكالعادة، يستخدم الاحتلال قوانين قديمة مثل القانون العثماني لعام 1858 لخدمة مشروعه الاستيطاني، رغم أن القوانين الحديثة تلغي القديمة. إذ يشترط الاحتلال استصلاح أكثر من 50% من الأرض بمزروعات دائمة، بينما يمنع الفلسطينيين من الوصول إليها بسبب اعتداءات المستوطنين والحواجز، ليعلنها “أراضي دولة”. وفي الوقت نفسه، تواصل الحكومة الإسرائيلية تشريع قوانين لتعزيز الاستيطان، مثل مشروع قانون يثبت اسم “يهودا والسامرة” رسميًا للضفة الغربية.

المنطقة (ج) الهدف الأولي للسرقة

الأخطر في هذا القرار أنه يفتح الباب أمام الاستيلاء على نحو 60% الأراضي المصنفة (ج) في اتفاقية أوسلو، الخاضعة للإدارة الأمنية والمدنية الإسرائيلية. وقد تمسّك الاحتلال بالسيطرة على هذه المنطقة لما تحويه من موارد طبيعية ومصادر مياه وأراضٍ زراعية، ما يجعلها الهدف الأساس للاستيطان والتسوية المزعومة كمرحلة أولى.

الكنيست عبر تمرير هذا القرار، يلغي أيضاً نتائج مسوح السلطة الفلسطينية ويعتبرها غير قانونية، مع العلم أن تقريراً لسلطة الأراضي الفلسطينية أكد أنه تم حتى عام 2023 تسجيل 58% من مجمل مساحة الضفة الغربية البالغة 5.7 ملايين دونم.

تقويض قيام دولة فلسطينية

السلطة الفلسطينية سارعت إلى إدانة القرار، كما أعرب الأردن ومن خلال وزارة الخارجية، عن رفضه وإدانته للقرار الإسرائيلي، مؤكداً إنه يشكل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي، وامتداداً لمساعي فرض السيادة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية المحتلة. محذراً من تبعاته وأهمها، تقويض فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة.

في الواقع، يتمتع موقف الأردن بخصوصية قانونية وتاريخية في هذا الملف، نظراً لإدارته للضفة الغربية بين عامي 1948 و1967، حيث تم تسجيل العديد من الأراضي الفلسطينية رسميًا آنذاك، ولا تزال تلك السجلات معتمدة حتى اليوم. وفي هذا السياق، يواصل الأردن تقديم دعم قانوني وفني للفلسطينيين عبر وزارة الخارجية ودائرة الأراضي والمساحة، وكان له دور فاعل في تقديم وثائق إثبات ملكية في قضايا محورية، مثل ملف حي الشيخ جراح في القدس الشرقية.

شرعية زائفة

ولعل المفارقة المضحكة المبكية في مشروع القرار الذي قد يضع ألاف الفلسطينيين في مواجهة العاصفة، أن سلطات الاحتلال لا تكتفي بمصادرة الأرض، بل تُضفي على فعلها غير المشروع شرعية زائفة تحت مسمى “أراضي دولة”، في تجاهل صارخ لحقيقة أن هذه الأراضي محتلة بموجب القانون الدولي واتفاقية أوسلو التي وُقعت لضمان حقوق الفلسطينيين، لا لشرعنة سرقتها.

وبهذا المنطق المشوّه، تتحول الدولة إلى كيان يهودي حصري، بينما يُختزل الفلسطينيون إلى مجرد “سكان طارئين”، تُسلب حقوقهم، وتُمحى هويتهم، ويُعاد تعريف وجودهم على أرضهم كعبء ينبغي التخلص منه.

 

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان