ماذا لو كان الأمريكي قاتل الإسرائيليَّين عربيا مسلما؟

إلياس رودريغيز (منصات التواصل)

عملية قتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأمريكية واشنطن، التي نفذها ناشط شاب أمريكي الجنسية من أصل لاتيني، جاءت كالصاعقة على رؤوس ساسة إسرائيل (حكومة ومعارضة)، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فأصابتهم بالذهول، وأشعلت المزيد من الانقسامات بينهم، فاندفعوا يتبادلون “المسؤولية” عن “الحادث”، ويوزعونها يمينا ويسارا. وتماهى الرئيس الأمريكي ترامب مع قادة إسرائيل في اختزال العملية بأنها “معاداة للسامية”، وهو توصيف مُعلَّب جاهز، ترمي به إسرائيل كل الرافضين لسياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

من أجل غزة.. وتقليد السنوار

الناشط الأمريكي يُدعى إلياس رودريغيز (30 عاما)، من مدينة شيكاغو الأمريكية، ليس عربيا ولا مسلما، وليست لديه سوابق جنائية، يمتهن كتابة المحتوى لشركات التكنولوجيا. بادر (مساء الأربعاء) بإطلاق الرصاص على إسرائيليَّين أمام المتحف اليهودي، فأرداهما قتيلين، ثم دخل المتحف ليجلس على مقعد، مقلدا في “جلسته” رئيس حركة حماس الراحل يحيى السنوار (استُشهد في غزة في 16 أكتوبر 2024)، ربما إعجابا بشخصيته وبطولته. وارتدى كوفية فلسطينية بحوزته، معلنا أنه مُنفذ العملية، وأنه فعلها من أجل غزة، وأن الحل هو الانتفاضة والثورة، ليقتاده رجال الشرطة من دون مقاومة، مرددا هتاف “الحرية لفلسطين”. إلياس عضو سابق في الحزب الاشتراكي الأمريكي (حزب صغير يضم 100 ألف عضو) المناهض للعنصرية والتمييز.

الفظائع وانعدام الإنسانية.. ودوافع إلياس

هذه الكلمات القليلة كاشفة لدوافع الناشط “إلياس” بالإقدام على هذه العملية، وتزداد هذه الدوافع وضوحا بقراءة محتوى بيان من 900 كلمة، منسوب إليه، ومتداول قبل يوم واحد من إقدامه على قتل الإسرائيليَّين. فهو ينتقد بشدة الحرب الوحشية والجرائم الإسرائيلية غير المسبوقة في التاريخ الإنساني على قطاع غزة (التي تدعمها أمريكا)، ويتحدث عن معاناته وأمثاله من مشاهد الفظائع التي تؤرقهم، وتقض مضاجعهم، مشددا على أن “انعدام الإنسانية” صار أمرا شائعا بشكل يومي وصادم، منهيا بقوله “حرروا فلسطين”. إجمالا، فإن معاناة “إلياس” والآلام النفسية الهائلة الضاغطة عليه، بفعل التوحش والإجرام الإسرائيلي، دفعته دفعا إلى ارتكاب جريمته “المدانة” بالتأكيد.

قصة “معاداة السامية”.. وسام بن نوح

القضية لا علاقة لها بـ”معاداة السامية”، هذه التهمة السابقة التجهيز التي يجري إشهارها إرهابا للناقدين لإسرائيل وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني. فالقاتل “الأمريكي” أراد قتل موظفي السفارة لكونهم “إسرائيليين”، وليس لأنهم يهود، بما ينفي عن عملية القتل إدراجها تحت عنوان “معاداة السامية” الذي لا محل له ولا سند.

وعلى ذكر معاداة السامية، فمن المهم تقصي معناها، فكلمة “السامية” في أصلها اللغوي ترجع إلى سام، ابن أول الرسل نوح عليه السلام، وتشير إلى شعوب عديدة ناطقة باللغات السامية، مثل العرب والعبرانيين والأمهرية، وغيرهم ممن أسهموا عبر الزمن بحضارات ثرية فكرا وعلما وثقافة وفنونا بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

في العصر الحديث، استطاع اليهود توظيف مصطلح “معاداة السامية” لصالحهم، استغلالا للمحرقة المنسوب ارتكابها بحقهم إلى الزعيم الألماني أدولف هتلر (1889-1945)، وما عانوه من التشدد الديني الأوروبي ضدهم في العصور الوسطى. ومع مرور الزمن، نجح اليهود في اختزال معنى المصطلح، ليشير إلى اضطهادهم أو فئة منهم، والتمييز ضدهم، مع المبالغة في إشهاره بوجوه الغير إذا لم يكن معهم.

خشونة الشرطة الأمريكية.. وثورة الطلبة

عودة إلى عملية المتحف اليهودي، فهي “تؤشر” وتشي بارتفاع منسوب الغضب وتمدده مساحاته في الغرب (الأمريكي والأوروبي) من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، قتلا وحرقا للمدنيين (60 ألف شهيد و150 ألف جريح) بأكثر الأسلحة فتكا بالبشر، وتدميرا وتخريبا للعمران. وهذا المؤشر ليس غامضا ولا خفيا، فهو في وضوح الشمس في كبد السماء منذ نحو عام، وعبَّر عن نفسه في انتفاضة طلبة الجامعات الأوروبية والأمريكية، التي قوبلت في الأخيرة بقمع الطلبة. وبدا أن الشرطة الأمريكية تحاكي شرطة العالم الثالث في التعامل مع الطلبة بخشونة شديدة وتلفيق الاتهامات لهم، مع تنافس مسؤولي الإدارة الأمريكية على مسايرة أنصار دولة الاحتلال في الداخل الأمريكي والحكومة الإسرائيلية في ترويج الاتهام المُعلَّب بمعاداة السامية ضد الطلبة، بهدف إرهابهم وقهرهم وقمع ثورتهم، وتجريدهم من دوافعهم النبيلة.

براكين الغضب تجتاح شعوب العالم

كما أن هذا الغضب الشعبي المتزايد والمتمدد اتساعا في أركان المعمورة، عبَّرت عنه آلاف المظاهرات والاحتجاجات في مئات المدن بالعالم، لكن الإدارات الأمريكية والأوروبية أدارت ظهرها لهذه الاحتجاجات، وتعامت عن مدلولاتها، قبل أن تستفيق حكومات فرنسا وبريطانيا وكندا والعديد من الدول أخيرا على وقع التغول الإسرائيلي باستخدام سلاح التجويع منذ 11 أسبوعا كاملة.

هذا كله يعني بلا مواربة أن براكين الغضب تجتاح “شعوب العالم” التي أصبحت -مثل حكوماتنا العربية والإسلامية- عاجزة عن وقف حرب الإبادة غير المسبوقة تاريخيا في بشاعتها وتوحشها، ويكون طبيعيا -في ظل هذه الأجواء- اعتمال الكراهية وتراكمها في النفوس ضد دولة الاحتلال، فيصل الغضب إلى منتهاه بالغليان والانفجار، فتكون حادثة المتحف (بغض النظر عن مشروعيتها) بمنزلة قرع لأجراس الخطر، وإنذار بأنها قابلة للتكرار والاتساع في قلب الغرب الأمريكي والأوروبي.

السياسة تستلزم من الإدارة الأمريكية والحكومات الأوروبية التحرك الفوري والعاجل، للضغط على “إسرائيل” لنزع فتيل التفجير من المنبع، بوقف إبادة غزة الآن قبل الغد. أما تشديد الحراسات على البعثات الإسرائيلية في كل مكان، فلن يفلح في حمايتها.

نحمد الله أن “إلياس رودريغيز” ليس عربيا مسلما، وإلا لقامت الدنيا ولم تقعد على المسلمين في “الغرب”، ولكان مسؤولوه ووسائل إعلامه قد أشبعونا من معلقاتهم المحفوظة تكرارا، بأن المسلمين “إرهابيون وهمج متوحشون بطبعهم، يعادون تحضر الغرب وحضارته”، وكأن ما يرتكبه جيش الاحتلال من عار الإبادة للبشر والحجر يمُت إلى الإنسانية بأي صلة. يبقى أن إلياس رودريغيز إنسان، دفعته وحشية الاحتلال إلى ما أقدم عليه.

نسأل الله النصر للشعب الفلسطيني، والرحمة للشهداء، والشفاء للجرحى.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان