أخيرا.. تحريم الخمور والولائم الفاخرة على موائد الشيوعيين!

«والتوت هو البديل»

اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني (منصات التواصل - أرشيفية)

أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والحكومة الصينية توجيهات جديدة، الأسبوع الماضي، بحظر الخمور والسجائر على موائد الطعام ومنع إقامة الولائم الفاخرة أو التجهيزات والديكورات الفاخرة في المركبات الرسمية، وكذلك الأزهار والنباتات بمكاتب المسؤولين الحكوميين أو الخلفيات التجميلية في الاجتماعات العامة.

يعلم من حضر لقاءات رسمية في الصين كيف يمارس المسؤولون بمستوياتهم كافة الإنفاق ببذخ على قائمة الممنوعات الحديثة، خاصة مع مطلع القرن الحالي.

في البداية استهدف هؤلاء إظهار روح الكرم الزائد أمام الغرباء، والتعبير عن حالة الصين الجديدة الغنية ذات الموارد الهائلة، ومحو صورة المجاعات الفظيعة التي أدت إلى وفاة أكثر من 30 مليون نسمة القرن الماضي، تحت حكم شيوعي قاس.

لم تولد هذه التعليمات من فراغ، فسبق أن قاد الرئيس شي جين بينغ عام 2013، عقب توليه رئاسة الدولة، حملة واسعة تدعو الحزب والحكومة إلى ترشيد نفقات موائد الطعام الرسمية، وفي حال وجود ضرورة لاستقبال الضيوف خاصة الأجانب، أجبر موظفي الدولة وقادة الحزب الحاكم على عدم ترك بواقي الطعام على المائدة، وحمل ما تبقى منهم في علب مغلفة وتوزيعها على الفقراء.

بقايا الموائد للفقراء

أفلحت الحملة الأولى التي تابعناها لسنوات في خفض عدد الولائم الرسمية، التي كانت تفرض على الضيوف الالتزام بحضورها مرتين أو مرة على الأقل يوميا، بما فيها من إسراف كبير في تقديم الخمور، وعدد أطباق للأطعمة تتراوح من 7 إلى 12 طبقا ونوعا مختلفا، إضافة إلى الحلوى والفواكه المحلية والمستوردة، وجلسات واسعة تستهلك ساعات مطولة من رحلة قصيرة نحتاج فيها إلى مشاهدة معالم البلد والناس في الشوارع، وخوض تجارب إنسانية بعيدا عن الروتين الحكومي وقيود الولائم.

لم يكن مسموحا للضيف بالاعتذار عن قبول وليمة، ومن العار رد كؤوس الخمر إذا قدَّمها زعيم سياسي أو كبير عائلة في المحافظات، بما عرَّضنا كثيرا لصدام مع مسؤولي البروتوكول الرسميين الذين لم يتفهموا أسباب الرفض إلا في السنوات الأخيرة، حينما أقنعناهم بأن المسلمين لا يرفضون الخمور استهزاء بهم، ولكن لعقائد دينية لا يفهمها إلا القليلون منهم، خاصة أن الحزب الشيوعي يفرض على المسلمين بالصين شرب الخمر في نهار رمضان، لدرجة أن أكثر المسلمين المقربين من السلطة هناك يعُدون أن احتساء الخمر بنسب قليلة لا يُذهب العقل، وأمر لا يتعارض مع مبادئ الدين!

مسؤولون فوق المحاسبة!

جاءت التعليمات الجديدة مفاجأة للمسؤولين كافة، لأنها لن تستهدف فقط الحد من الإسراف البيروقراطي والتقشف داخل الوزارات والأجهزة التنفيذية والحزبية التي تضم نحو 100 مليون “كادر” حزبي ووظيفي، اعتادوا الاستهلاك المفرط أثناء الاجتماعات الحزبية، والتفاخر بينهم ومع الغرباء على حساب الموازنة العامة، لكنها ارتبطت بحظر السجائر والخمور التي يستهلكها الصينيون خاصة الرجال بشراهة كبيرة، تجعلهم يكسرون قواعد حظر الشرب والتدخين داخل الفنادق والمنشآت العامة، بينما يتعرض غيرهم لغرامات فادحة والسجن في حال تكرار المخالفة.

لأول مرة نرى الحزب الشيوعي يعترف في وسائل الإعلام المحلية بأن شرب الكحول المفرط يمكن أن يؤثر في الأداء الوظيفي، ويعرّض بعضهم للعمل جواسيس للأجانب، ويتسبب في مشكلات صحية خطرة قد تؤدي إلى الوفاة، بما يتوافق مع التحذيرات الغربية التي تقودها وسائل الإعلام الليبرالية في واشنطن، التي طالبت أخيرا بحظر الخمور تماما أو وضع علامة تحذر من تسببه في الوفاة وإصابة شاربها بمرض ألزهايمر، أسوة بالكلمات المطبوعة على علب السجائر “تناولها يسبب الوفاة بمرض السرطان”.

يسلط الإعلام الضوء على حوادث وفاة مسؤولين بمقاطعة “خنان” الشهر الماضي، بعد شربهم خمورا في مأدبة غداء رسمية، منوّها إلى خفض وزارة المالية الميزانية المخصصة للنفقات الرسمية لعام 2025، على الضيافة والرحلات الخارجية والسيارات، مع حظر استخدام السيارات الحكومية لأغراض شخصية أو تحديثها، مع إلزام الدوائر الرقابية الحكومية والحزبية بمتابعة المخالفات.

عودة إلى المشروبات الشعبية

الحرب على الفساد ستضع حدا للمسؤولين الذين كنا نراهم يقطعون إشارات المرور، ويسيرون بمركباتهم في المسارات المخصصة للطوارئ، خاصة داخل المدن المزدحمة مثل بيجين وتيانجين وشنغهاي وشينزين.

استبدل المسؤولون شراب التوت الصيني الخالي من الكحول بالخمور. وألزمت الحكومة الجميع بشد الحزام على البطون، لمساعدة الدولة على مواجهة الضغوط الاقتصادية المتزايدة، والحد من زيادة الدين العام وتراجع الإيرادات العامة، وتريد أن تصمد في مواجهة عواصف خطرة، تهدد مستقبلها الصناعي وريادتها دوليا.

الأهم للحزب الشيوعي أنه يخشى فقدان قدرته على تقديم نموذج قيادي أمام المواطنين الذين يرون الحكام يعيشون في ترف بعيد عن الواقع.

هذا التناقض كان يسبب لنا صدمة شخصية مما رأيناه على تلك الموائد من بذخ ليس في المأكولات وكمياتها ونوعيتها التي لا يعرفها عامة الشعب، ولكن في البهرجة الهائلة بحفلات الاستقبال بكل ما حولنا والأطباق والملاعق المصنوعة من الذهب الخالص والخزف الفاخر، بقاعات الاحتفالات بمجلس نواب الشعب أو الوزارات المركزية وفي القصور والفنادق المملوكة للدولة.

قد يكون الأمر سهلا أمام الحكومة لإغلاق صنابير المال المهدر على موائد المسؤولين، ومع ذلك فإنها ستحتاج إلى مزيد من الحزم مع شبكات البيروقراطية بالدولة العميقة التي تعلم كيف تصب المال العام في جيوبها وتجني ثروات فاسدة هائلة، تكتشف آثارها بعد سنوات عندما تتغير القيادات أو تشتعل الحروب السياسية بين الفرقاء.

“المال السايب”

يظل التحدي الحقيقي أمام النظام الشيوعي هو الحد من تناول الكحول الذي يدمنه -وفق تقديرات رسمية- ما بين 6% و9% من إجمالي السكان البالغين، وخاصة الرجال الذي يعانون اضطرابات مرتبطة بالكحول بنسبة تراوح بين 10% و12%، بينما لا تتجاوز 1% أو 2% فقط بين النساء. هذه النسبة المرتفعة لها جذور قديمة لدى شعب اعتاد الإفراط في تناول الخمور الشعبية المستخلَصة من الأرز والشعير، وزادت بعد تولي الحزب الشيوعي السلطة، وسماحه بتناول الخمور في كل وقت لجموع الأعضاء والمسؤولين، باعتبارها ثقافة نظام جديد وإحدى أدوات التميز الوظيفي والتماهي مع تعليمات حزب غير ديني.

ورغم معاناة 12.1% من الأمريكيين الذكور الذين تزيد أعمارهم على 12 عاما من اضطراب استخدام الكحول، و8.3% من الإناث في الفئة العمرية نفسها، تزداد إلى 19.8% بين الرجال الروس و6.1% بين النساء، وتنخفض في اليابان إلى 1.9% بين الرجال و0.2% بين النساء، فإن العامل المشترك بين المضطربين من شرب الخمور خارج الصين أنهم يدفعون الثمن من جيوبهم ويتحملون نتائج أعمالهم، أما في الصين فالمال العام هو أكبر مصدر لتمويل شراء الخمور خاصة المستوردة لجيش جرار من المسؤولين بالدولة وقادة الحزب الشيوعي، والوظيفة العامة هي بوابة الموائد الفاخرة التي تهدر أموال الشعب عبر مسارين، أحدهما عند الشراء والآخر علاج الآثار السيئة الناتجة عن تناولها.

يقول المثل الشعبي “المال السايب يعلّم السرقة”، وقد حان الوقت لإيقاف هذا التسيب في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، على أمل أن يصبح لنا أسوة حسنة تدفعنا إلى إيقاف هذه الظواهر التي احترفها كثير من المسؤولين العرب والمسلمين الذين تخلوا عن مشروباتهم الوطنية والمآدب البسيطة، للسير في ركاب مظاهر وموائد فاخرة، لا تتناسب مع عقائدهم ولا أحوالهم الاقتصادية والمالية.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان