وزير الثقافة الجديد.. هل يقود ألمانيا إلى انغلاق حضاري؟

وزير الثقافة الألماني فولفرام فايمر المثير للجدل (رويترز)

عندما يكون وزير الثقافة في أي دولة شخصية ملهمة ومبدعة، فإن وجوده يغذي الحياة الثقافية ويشعل شرارات الإبداع في المجتمع. أما حين تتحول الثقافة إلى أداة لتجميل السلطة وتلميع صورتها، فإنها تصاب بالركود وتفقد حيويتها. لذلك، لا يُستغرب أن يرفض كثير من المثقفين تولي مناصب وزارية، مفضلين دورهم بصفتهم صحفيين أو كتّابا أحرارا، حفاظا على استقلاليتهم الفكرية وتعبيرهم الحر.

في ألمانيا، أثار تعيين الصحفي المعروف فولفرام فايمر وزيرا للثقافة جدلا واسعا، وطرح تساؤلات بشأن مدى قدرته على الإحاطة بالمشهد الثقافي بكل تعقيداته، خصوصا في بلد أدت فيه الهجرة والتعددية الثقافية دورا محوريا خلال العقود الماضية. فهل يستطيع صحفي -مهما كانت تجربته الإعلامية لامعة- أن يقود السياسة الثقافية لدولة مثل ألمانيا، ذات الإرث الفني العريق والمشهد الثقافي المتنوع والمعقد؟

تحديات المنصب

عمل فايمر في صحف مرموقة مثل “فرانكفورتر ألجماينه” و”دي فيلت” و”تسايتونغ”، ويشغل حاليا منصب رئيس مجموعة “فايمر ميديا” التي تنشر عددا من المجلات السياسية والثقافية. وهذا هو التحدي الأول الذي يواجهه: كيف سيوازن بين مسؤوليته الوزارية وملكيته لمؤسسة إعلامية تنافس جهات عامة سيكون هو مشرفا عليها مثل “دويتشه فيله”؟ ورغم إعلانه نقل إدارة مجموعته إلى زوجته فإن الشكوك تبقى قائمة بشأن تضارب المصالح، خاصة أنه كان من أبرز الداعين إلى خصخصة الإعلام العام، وشكك سابقا في شرعية الإعلام الذي تموله الدولة.

لكن ما يثير القلق الأكبر هو التوجه الفكري للوزير الجديد، فهو لا يحظى بشعبية في الأوساط الثقافية، وتلقى آراؤه وكتاباته معارضة شديدة بين الفنانين والمثقفين، إذ يعبّر فايمر عن مواقف محافظة راديكالية، وسبق أن صرَّح بأن دونالد ترامب لا يمثل تهديدا حقيقيا، بل يرى فيه شخصية موهوبة قادرة على مخاطبة الشعب الأمريكي بفاعلية، في رأي يتنافى مع الموقف النقدي العام في الأوساط الثقافية الأوروبية.

فايمر ليس من دعاة الانفتاح الثقافي، بل يميل إلى ما يمكن تسميته “الانغلاق الحضاري”، وهو ما يتماهى مع مواقف اليمين المحافظ في ألمانيا. هذه النزعة تثير قلقا واسعا بين أبناء الجاليات الأجنبية والمثقفين من أصول مهاجرة، خاصة حين تُختزل الهوية الثقافية في معايير الأصل والنسب. ولهذا يرى كثيرون أن تعيينه رسالة موجَّهة إلى جمهور حزب “البديل من أجل ألمانيا”، في محاولة من حزب ميرتس لاستقطاب الناخبين اليمينيين، وهو ما قد يفاقم حالة الانقسام داخل المجتمع الألماني.

رؤية ثقافية محافظة

في كتابه الصادر عام 2018 بعنوان “البيان المحافظ”، طرح فايمر رؤيته الفكرية التي تعتمد على إعادة تموضع نقدي للقيم التقليدية لمواجهة تحديات العصر، لكن هذه الرؤية لم تجد صدى إيجابيا لدى المثقفين الألمان، إذ يهاجم العولمة وانفتاح الأسواق، ويرى أنها أدت إلى فقدان الهوية. كما ينتقد الحداثة، ويدعو إلى استعادة قيم مثل الأسرة والوطن والإيمان والانضباط، بوصفها قيما دائمة لا يجوز التخلي عنها، بل تجب إعادة تأصيلها في مواجهة ما يسميه “الفراغ القيمي” المعاصر.

الأخطر من ذلك ما ورد في الفصل الخامس من كتابه، إذ يتحدث عن “القيم اليهودية-المسيحية للغرب” بوصفها متناقضة مع “قيم العالم الإسلامي الشرقي”، متجاهلا تاريخا طويلا من التبادل الثقافي بين الحضارتين، ومتناسيا فضل الأندلس والعلماء المسلمين الذين أسهموا في بناء الحضارة الغربية. كما يغض الطرف عن الدور المهم للمهاجرين المسلمين -خصوصا من تركيا ودول البلقان- في إعادة إعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وحضورهم الواضح في نهضة الاقتصاد الألماني.

مرحلة انقسام واستقطاب أم وحدة وتماسك؟

من الناحية الاجتماعية، لا يخفي الوزير موقفه السلبي من قضايا التنوع، إذ يعبّر بازدراء عن ما يسميه “أيديولوجية الميول الجنسية”، منتقدا الإفصاحات العلنية لبعض المشاهير عن توجهاتهم الجنسية، وهي مواقف تتناقض مع التيار العام في الأوساط الثقافية الألمانية، التي تميل إلى الانفتاح والليبرالية، وتؤمن بأهمية احترام التنوع في المجتمع، سواء الديني أو العرقي أو الجنسي.

لذلك يرى كثير من المراقبين أن الثقافة الألمانية قد تدخل في مرحلة من الاستقطاب الحاد مع تولي فايمر حقيبة الثقافة، مما يطرح سؤالين جوهريين: هل كان حزب ميرتس مستعدا لتحمُّل تبعات هذا الاختيار؟ وهل من الحكمة ربط المشروع الثقافي للدولة برؤية أيديولوجية محافظة في وقت تحتاج فيه الديمقراطية الألمانية إلى مزيد من التماسك وليس الانقسام؟

في النهاية، يرى فايمر نفسه معبّرا عن روح العصر، ويعتقد أن المحافظ الحقيقي هو من يظل وفيا لقيمه دون أن ينغلق على الماضي، ويؤمن بأن الناس بحاجة إلى من يذكّرهم بجذورهم وثقافتهم الأصيلة، لكن التحدي الحقيقي أمامه هو إثبات أن بإمكانه خدمة الثقافة الألمانية بمفهومها التعددي والانفتاحي، وليس تقزيمها أو توجيهها نحو رؤى أيديولوجية ضيقة قد تزيد من حدة الانقسام الثقافي والاجتماعي في بلد يعاني تعدد التحديات.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان