الصمت عار.. والمقاومة شرف لا يُدرَك

في زمن صار فيه النفاق فضيلة، والجبن حكمة، والخيانة رأيا، تخرج علينا أصوات واهنة رخوة، ترتجف من مواجهة الحقيقة، تهاجم من يقف في وجه الطغيان، وتبرر لمن يقتل الأطفال ويدك البيوت على رؤوس ساكنيها. نعم، نحن نعيش في زمن أصبح فيه المُطالب بحقه مدانا، والمجرم المحتل بطلا في عيون الصامتين والمتواطئين.
غزة لا تحتاج منا بيانات شجب ولا دموعا على الأطلال، غزة تحتاج أن نصمت على الأقل إن لم نستطع الوقوف معها، لكن أي صمت؟ الصمت النبيل؟ لا، بل الصمت المذل، صمت مدفون في تراب الخوف، صمت يشبه انحناءة النعامة حين تدفن رأسها في الرمل، لعلها لا ترى القادم.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفي المطار السوري رفضوا ختم جواز سفري لأنه مزور!
حديث القرآن عن ميراث البنات عند عدم وجود الأخ
من هم المقاتلون الأجانب الذين سيتم منحهم الجنسية السورية؟
الساكت عن الحق ليس شيطانا أخرس فقط، بل شريك في الجريمة، مطبّع بالقوة، أو هو متواطئ بعدم المبالاة. كيف تجرؤ أفواه أن تنتقد من يحمل السلاح في وجه العدو، في وجه من لم يترك طفلا أو امرأة أو شيخا إلا وكان له فيه أثر؟ أي منطق هذا الذي يدين من يدافع عن أرضه، ويغض الطرف عن طائرات تقصف، ودبابات تقتل، وأجساد تتطاير في الهواء، وأبراج تُسوى بالأرض؟
نحن عار، نعم، نحن العار ذاته حين نمر على دماء غزة مرور الكرام، ونعود إلى هواتفنا ومقاهينا وحياتنا وكأن شيئا لم يكن. نحن العار حين نخشى أن نتكلم، وحين نحذر من “التحريض” وكأن من ماتوا تحت الأنقاض أقل شأنا من جدران صمتنا. نحن العار حين نمارس حيادا كاذبا في معركة لا حياد فيها، معركة فيها حق وباطل، فيها مقاومة وشعب أعزل، وفيها جيش احتلال مدجج يدوس على كل القيم الإنسانية المتعارف عليها عالميا.
لا حياد في هذه المعركة
غزة اليوم ليست مجرد مدينة تحت القصف، غزة اليوم مرآة من يملك ضميرا، وكابوس من فقد إنسانيته. غزة ليست رقعة جغرافية، بل اختبار أخلاقي حاسم، من سقط فيه لم يعد يُؤتمن على كلمة، ولا يُعتد برأيه، ولا مكان له في صفوف الأحرار. إنها فلسطين التي ما اقترب منها كائن إلا اعتز، وما ابتعد عنها إلا سقط واهتز.
ألا ترون جثث الأطفال؟ ألا تسمعون صرخات الأمهات تحت الركام؟ ألا تهزكم أنقاض المساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس ورياض الأطفال ودور الثقافة والمكتبات؟ أم إن أعينكم أُطفئت وقلوبكم غُلّفت ببرود التطبيع وعدم المبالاة؟
من يهاجم غزة اليوم، ويهاجم مقاومتها، إنما يهاجم الشرف ذاته. من يسخر من صواريخها، يسخر من فكرة الكرامة. من يطالبها بالاستسلام، يطلب منها أن تدفن أبناءها مرتين، مرة تحت القصف، ومرة تحت الذل.
لا حياد في هذه المعركة. أن تقول “أنا لست مع أحد” يعني أنك مع القاتل، بصمتك، برغبتك في النجاة من الحرج، وبخوفك من أن تُحسب على المظلوم.
غزة لا تريد أن تحسبك معها، فقط لا تكن عليها. لا تمد يدك ضدها، لا تطعنها في ظهرها وهي تحارب وحدها من أجل الكرامة الجماعية للأمة بأكملها، بل وللإنسانية جمعاء.
ومع هذا، لم يكن الصمت وحده هو الجريمة، بل الخذلان والغبن والتواطؤ.
لقد أصبحنا نعيش في زمن أصبحت فيه مظاهر الخذلان عنوانا لحياتنا: أن تُحرَق غزة وننكس أعلامنا فقط لأجل كأس العالم، أن تُقطع أوصال شعب كامل وتُهدم مستشفياته، ونستمر في حفلاتنا الغنائية وفعاليات “الوعي”. أن يُذبح الأطفال ونحن نطبع الابتسامات في اجتماعات القمم. هذه ليست فقط مظاهر خذلان، بل عار جماعي سيلاحقنا ما حيينا.
أضعف الإيمان أن نقول الحق لأبنائنا، أن نربّي أجيالنا على الحقيقة، لا على الخوف ولا على تزييف الواقع. أضعف الإيمان أن نُسمي الأشياء بمسمياتها: أن يبقى المغتصب مغتصبا، والجلاد جلادا، والقاتل قاتلا والمقاوم مقاوما والضحية ضحية، لا أن نغمسهم في رمادية مميتة، أو نختبئ خلف شعارات السلام الكاذب والمضلل.
رسالتنا، إن لم نقدر على نصرة غزة بالفعل، أن ننقل الحقيقة كما وصلتنا، أن نحملها أمانة لأبنائنا وأحفادنا.
غزة لا تنتظر
لعلنا لا نكون صلاح الدين، لكن ربما نوقظ فيهم صلاح الدين. لعلهم لا يُولدون على الجبن كما وُلدنا، ولا يُربّون على الصمت كما ربينا أنفسنا. نحن جيل واهن، نعم. جيل صامت، نعم. لكن لا نعفو أنفسنا من حمل الرسالة.
أخبروا أبناءكم أن ما يجري في غزة جريمة لا حرب، أن ما يحدث مقاومة لا إرهاب، أن الصمت خيانة لا حكمة، لعلهم حين يكبرون يختارون الكرامة من جديد.
غزة لا تنتظر اعتذاراتنا، لكنها تستحق أن نكون أمناء في نقل الحقيقة عنها ومن أجل أطفالها ونسائها وشيوخها.
في النهاية، المقاومة ليست خيارا، بل إنها قدر حين يغلق العالم أبوابه في وجهك. والموت وقوفا في غزة أشرف من العيش تحت أقدام المحتل، بله أن يكون هذا العيش سكوتا عن الحق أو بحثا عن مبررات للعدو، لا يبحث عنها هو نفسه لتبرير أكبر إبادة جماعية تحياها الإنسانية في عصرنا الحالي تحت أضواء الكاميرات التي تنقلها إلى العالم على الهواء مباشرة.