معركة الحرية: عندما كان أستاذي كامل زهيري نقيبا للصحفيين!

نقيب الصحفيين المصريين الراحل كامل زهيري (منصات التواصل)

يشعر الوطن بألم فقد رجاله الذين يدافعون عن حريته، ويحتل أستاذي كامل زهيري مكانته بين المقاتلين من أجل حرية الصحافة التي يرى أنها حق للشعب، وليست امتيازًا للصحفيين؛ فمن حق المواطن أن يحصل على جريدة توفر له المعلومات الصحيحة عن الأحداث؛ فلا يمكن أن يشارك المواطن في شؤون المجتمع إن لم يحصل على المعرفة من صحافة حرة.

ولذلك قاد كامل زهيري نقابة الصحفيين لتدافع عن حقوق شعب مصر ورفضه للتطبيع مع إسرائيل؛ فتحولت النقابة في عهده إلى قلعة لمقاومة التطبيع، ورفض عرض السادات بنقل مياه النيل إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي.

السادات يغضب على النقابة

لذلك تزايد غضب الرئيس السادات على نقابة الصحفيين، وفكر في وسيلة للتخلص منها؛ فابتكر له المنافقون فكرة غريبة لم تعرفها النظم السياسية من قبل، وهي تحويل نقابة الصحفيين إلى نادٍ اجتماعي بحجة أنه يريد أن يحول الصحافة إلى سلطة رابعة، ولا يجوز أن تكون هناك نقابة لسلطة… فالقضاة ليس لهم نقابة، وعلى الصحفيين أن يكونوا مثل القضاة يذهبون إلى ناديهم ليشربوا الشاي والقهوة، فلا سياسة في الصحافة!!

كنت في ذلك الوقت أعمل محررًا برلمانيًّا لجريدة الشعب، وهي تجربة مهمة في تاريخ الصحافة المصرية تبرهن على أن الشعب يمكن أن يوفر فرصة النجاح لجريدة تعبّر عنه، مهما كان ضعف إمكانياتها، وأن مستقبل الصحافة يرتبط بقدرتها على التعبير عن آمال الشعب في الديمقراطية والاستقلال؛ فلقد نجحت جريدتنا بالرغم من الحرب التي شنتها عليها أجهزة السلطة، وأصبحت صوت الحركة الوطنية المصرية.

تكامل الأدوار في معركة الحرية

قررنا في جريدة الشعب القيام بحملات صحفية ضد قانون “سلطة الصحافة”، والتطبيع، ونقل مياه النيل إلى إسرائيل، فبدأت علاقتي بكامل زهيري، الذي كان من أهم مصادري في هذه الحملات؛ وتزايدت هذه العلاقة قوة مع الزمن، وتكاملت أدوار جريدة الشعب مع النقابة والبرلمان؛ فتراجع السادات عن فكرته، وإن كان قد أصر على إصدار قانون “الصحافة سلطة رابعة” عام 1980، الذي فرض الكثير من القيود على حرية الصحافة. لكن مراجعة ذلك القانون الآن توضح أننا حققنا الكثير من النتائج الإيجابية في معركتنا من أجل حرية الصحافة، وأن اليوم الذي بكينا منه، يمكن الآن أن نبكي عليه.

وكما تمكنا في جريدة الشعب من توعية الجمهور، ونقل الحقائق، ونشر الآراء المختلفة، ومناقشة القضايا، تمكنت نقابة الصحفيين من الصمود والوقوف بقوة للدفاع عن حق الشعب في الصحافة الحرة، وكان كامل زهيري هو القائد الذي ألهم الصحفيين بقوته وشجاعته. وتجمع الصحفيون من كل الاتجاهات في مبنى النقابة القديم، لكن بالرغم من الاختلافات السياسية، تمكن كامل زهيري من توحيد النقابة، وبناء مكانتها الوطنية؛ فتطلع الشعب لدورها في الدفاع عن حقوقه.

ولقد كانت معركة من أجل الحرية في مواجهة السلطة، توضح أنه لا يمكن تحقيق التقدم والديمقراطية بدون صحافة حرة، وأن نقابة الصحفيين يمكن أن تقود كفاح الشعب.

من أجل الحرية!

عندما تم تعييني بكلية الإعلام عام 1981، كان هناك من يرى أنني يجب أن أستمر في العمل بالصحافة بدلًا من ضياع العمر في الدراسات العليا والبحث العلمي، وكان لذلك الرأي مبرراته المنطقية؛ فبدأت أميل إليه. لذلك قررت أن أذهب لأستشير أستاذي كامل زهيري، الذي نصحني بالاستمرار في الكلية، فقررت تنفيذ نصيحته.

حافظت طوال السنوات التالية على علاقتي به، حتى أنجزت رسالتي للدكتوراه عن حرية الصحافة، وقرر أستاذي خليل صابات، المشرف على الرسالة، أن يكون كامل زهيري عضوًا بلجنة المناقشة؛ فذهبت إلى بيته أحمل رسالتي الضخمة، فاستقبلني بحب، وقرأ المقدمة وابتسم، وأنا أعرف جيدًا معنى ابتسامته التي تحمل الحب للوطن والحرية.

عندما عدت بعد يومين للحصول على تقريره عن صلاحية الرسالة للمناقشة، لاحظت أنه وضع الكثير من البطاقات في صفحات الرسالة التي تحمل ملاحظاته، فتوقعت أنه سيوجه إليّ نقدًا شديدًا، لكنه أدار معي مناقشة عميقة حول الحرية التي وحدت بيننا بالرغم من الاختلافات الفكرية والسياسية، وكانت المناقشة دليلًا على أننا نستطيع أن ندير اختلافاتنا، ونحوّلها إلى وسيلة للإبداع، وتطوير الكفاح لتحقيق أهداف عظيمة، وأننا يمكن أن نتّحد للدفاع عن حق الشعب في صحافة حرة لوطن حر.

المشاركة في الوداع

ظل أستاذي كامل زهيري حريصًا على أن يقدمني في المؤتمرات، ويبحث لي عن فرص لنشر إنتاجي العلمي، لكن نتيجة الكثير من الضغوط التي واجهتها بسبب مشاركتي في الحملة ضد قانون تنظيم الصحافة عام 1995، ومحاضراتي عن حرية الصحافة، لم يكن أمامي سوى الرحيل؛ بالرغم من أنني أدرك أن مستقبلي في مصر، وأن فيها الأرض، والأهل، والقبيلة، وجامعة القاهرة، والصحافة، والتلاميذ، والأصدقاء، والحلم الكبير: صحافة حرة لوطن حر. وما أصعب أن يعاني الإنسان ألم النفي من تاريخه ومعاركه؛ لكن ربما يكون فراق أستاذي كامل زهيري أكثر ما عانيته في الغربة.

وتوفي أستاذي دون أن أتمكن من المشاركة في وداعه، لكنني قررت أن أواصل الكفاح؛ فالمعركة مستمرة، ولقد تعلمت أن أواجه الهزائم بصمود وثقة وأمل، وأن أواصل السير مهما كانت آلام الجراح، وقسوة الطغيان، ومرارة انكسار الحلم.

هل يتجدد الأمل؟!

طافت تلك الذكريات بخيالي وأنا أتابع انتخابات نقابة الصحفيين، فأنا أبحث دائمًا عن أضواء المستقبل، وأعلم أن فوز البلشي كان تعبيرًا عن أشواق الصحفيين للحرية، وأن النقابة يمكن أن تقود الكفاح؛ وما زال سلم النقابة يستوعب الآراء المختلفة، وما زالت النقابة يتضوع منها عطر تاريخ كامل زهيري ومعاركه وصموده. فهل يقوم البلشي بدوره في قيادة مرحلة جديدة من الكفاح، فيتجدد الأمل في بناء مستقبل الصحافة على قواعد الحرية والوفاء بحق الجماهير في المعرفة وإدارة المناقشة الحرة حول كل قضايا الأمة؟ دعنا نحلم، ونطلق لخيالنا العنان، ونبدع الأفكار الجديدة؛ فالناس سيعودون لقراءة الصحف عندما يدركون أنها تدافع عن حقوقهم، وتقود الكفاح لبناء المستقبل بالمعرفة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان