أوروبا وإسرائيل.. هل تُجدي المراجعة نفعا؟

الحكومة الإسبانية تستضيف اجتماعا لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي والدول العربية لبحث الحرب في غزة (رويترز)

بعد مرور نحو عشرين شهرا على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، التي أسفرت عن استشهاد عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتدمير كامل للبنية التحتية، أعلن الاتحاد الأوروبي أخيرا -على استحياء- عن شروعه في مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل. هذا القرار، يبدو لأول وهلة بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح، الذي حاد عنه الأوروبيون منذ بداية العدوان الإسرائيلي، ويطرح في العمق سؤالا أخلاقيا وسياسيا: هل يمكن أن نعتبر ذلك عدالة متأخرة؟ وهل يُعفي ذلك المسؤولين الأوروبيين من المحاسبة؟ أم أن تأخُّر أوروبا في التحرك يجعلها طرفا غير مباشر في الكارثة الإنسانية المستمرة؟

اتفاقية الشراكة: المادة المهملة “حبر على ورق”

تقوم اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودولة الاحتلال الإسرائيلي، الموقَّعة عام 2000، على أساس مبدأ صريح في المادة الثانية منها هو “أن العلاقات يجب أن تُبنى على احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية”. لكن هذه المادة، التي من المفترض أن تكون ضامنا أخلاقيا وقانونيا لاستمرار العلاقة الطبيعية بين الطرفين، أصبحت مادة مهملة، وتحوَّلت في الممارسة إلى مجرد حبر على ورق!

طوال العقدين الماضيين، ورغم تكرار الانتهاكات الإسرائيلية وضرب تل أبيب عرض الحائط بكافة الأعراف والمواثيق الدولية والإنسانية، ظل الاتحاد الأوروبي يتجاهل هذه المادة، ويواصل دعمه المطلق لتل أبيب.

الآن، وفي ظل ضغوط من دول مثل إسبانيا وأيرلندا، وتحول ملموس في المواقف داخل بعض العواصم الأوروبية -وإن كان خجولا- أعلنت الإستونية كايا كالاس، الممثلة العليا الجديدة للسياسة الخارجية، عن بدء مراجعة تلك المادة. ولكن يبقى السؤال: لماذا الآن؟ ولماذا بعد فوات الأوان؟

انقسام داخل البيت الأوروبي

قرار المراجعة لا يُخفي الانقسام الواضح داخل الاتحاد الأوروبي. ففي الوقت الذي طالبت فيه السويد وسلوفينيا بفرض عقوبات على بعض وزراء حكومة نتنياهو بسبب دعمهم لسياسة الاستيطان والتطهير العرقي، كانت المجر -مرة أخرى- العائق الأكبر، حيث منعت قرارا بالإجماع يفرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين العنيفين في الضفة الغربية.

يتكوَّن الاتحاد الأوروبي من 27 دولة، وذلك بعد انسحاب المملكة المتحدة رسميا في يناير 2020.

وفقا لمصادر دبلوماسية، دعمت 17 دولة عضوًا في الاتحاد الأوروبي مبادرة هولندا لمراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، من بينها: النمسا، بلجيكا، الدنمارك، سلوفينيا، سلوفاكيا، إسبانيا، إستونيا، فنلندا، فرنسا، أيرلندا، لوكسمبورغ، مالطا، بولندا، البرتغال، رومانيا، والسويد. وامتنعت لاتفيا عن التصويت، وعارضت كل من ألمانيا وإيطاليا المشروع.

هذا الانقسام لا يُضعف فقط فعالية القرار الأوروبي، بل يُرسل أيضا رسالة واضحة إلى إسرائيل مفادها أن الاتحاد عاجز عن اتخاذ موقف حازم، وأنه لا يزال أسيرا لحسابات سياسية داخلية تفوق في أهميتها دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ في غزة.

كلفة التأخير: أكثر من 53 ألف شهيد

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى 24 مايو/أيار، يقترب مجموع الشهداء في قطاع غزة من 54 ألف شهيد، منهم 18,000 طفل، و12,400 امرأة. هذا الرقم الصادم لا يعكس فقط حجم الكارثة الهائل، بل يُدين بشكل مباشر صمت المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي، ويجعل الجميع في موقع المتواطئ مع إسرائيل.

كان الكتالوني جوزيب بوريل، الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، الذي يرأس حاليا مركز برشلونة للشؤون الدولية، الوحيد بين قادة المؤسسات الأوروبية الذي أعلن إدانته للانتهاكات الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وندد بازدواجية معايير الاتحاد الأوروبي.

وفي مواجهة الصمت المطبق من الألمانية أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية -التي لم تُظهر أدنى تعاطف مع معاناة الفلسطينيين- حاول بوريل متابعة طلب إسبانيا وأيرلندا مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، الذي تقدمت به الدولتان إلى المفوضية الأوروبية في فبراير/شباط 2024. لكن فشلت المحاولة بسبب معارضة معظم الأعضاء.

الآن، يبدو الأمر مختلفًا، حيث دعمت 17 دولة أوروبية طلبا جديدا تقدمت به هولندا.

أوروبا شريكة في آلة الحرب

يقول جوزيب بوريل: “إن نصف القنابل التي تُدمَّر بها غزة تُصنَع في أوروبا”. لا شك أن ذلك يُلقي الضوء على المسؤولية الأخلاقية.

لقد أصبحت أوروبا، من خلال صادرات الأسلحة المباشرة وغير المباشرة، شريكة في الانتهاكات الإسرائيلية.

أما بالنسبة لمصدر الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل في غزة، فهي موزعة كالتالي: 66% من الولايات المتحدة، و33% من ألمانيا، و1% من إيطاليا.

وتُزوّد ​​برلين جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل رئيسي بأسلحة للقوات البحرية، إضافة إلى محركات المركبات المدرعة المستخدمة في حرب غزة.

ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن معظم ما يصل من روما هو مروحيات خفيفة ومدافع بحرية. كما تُنتج إيطاليا مكونات لطائرات إف-35 الأمريكية التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي.

ازدواجية المعايير

حين غزت روسيا أوكرانيا، لم يتردد الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات صارمة وشاملة، بما في ذلك حظر تصدير الأسلحة، وتجميد الأصول المالية، ومحاسبة المسؤولين. لكن في حالة غزة، جاء الرد الأوروبي مترددا، ضعيفا، بل تواطئيًّا.

هذا التناقض يُضعف مصداقية الاتحاد الأوروبي كفاعل دولي، ويجعله موضع اتهام بالنفاق والكيل بمكيالين. فكيف لأوروبا أن تطالب بالعدالة في كييف، وتغضّ الطرف عنها في غزة؟

الجهة الوحيدة التي يبدو أنها لا تزال تحتفظ بشيء من الضمير الأخلاقي داخل المؤسسات الأوروبية هي البرلمان الأوروبي، وتحديدا الكتلة اليسارية، التي طالبت بوضوح بإلغاء اتفاقية الشراكة فورًا، وفرض حظر شامل على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، ودعم التحقيقات الدولية في جرائم الحرب المرتكبة.

لكن هذه المطالب تصطدم بحائط الدول “الواقعية”، التي ترى أن المصالح الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل فوق أي اعتبارات أخلاقية.

هل تُجدي المراجعة نفعًا؟

السؤال المهم هو: هل تُجدي مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل نفعًا؟ رغم أهمية المراجعة، فإن الطريق نحو اتخاذ قرار فعلي بخصوص تعليقها أو فرض عقوبات يحتاج إلى إجماع الدول الأعضاء، وهو ما يبدو مستبعدا في ظل الانقسامات الحالية.

وحتى على افتراض حدوثه، فإن العقوبات ستكون محدودة ما لم تشمل الوزراء والسياسيين المتورطين في دعم الاستيطان، وشركات تصنيع الأسلحة، والكيانات الاقتصادية المرتبطة بالمستوطنات.

يملك الاتحاد الأوروبي أدوات ضغط فعّالة، مثل تقليص التجارة أو تعليق الاتفاقيات، لكنه لا يستخدمها. وهذا يُعد فشلا استراتيجيا في استخدام القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية لتوجيه سلوك الشركاء.

أوروبا الآن أمام مفترق طرق حاسم؛ إما أن تختار أن تكون قوة سياسية ذات ضمير، تستند إلى مبادئها في الدفاع عن حقوق الإنسان، وإما أن تواصل طريق التردد والنفاق السياسي. ما حدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل اختبار حقيقي يضع على المحك مصداقية الاتحاد الأوروبي كفاعل دولي.

يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة شاملة لأدواره في الصراعات الدولية، لإنقاذ ما تبقّى له من سلطة أخلاقية على الساحة العالمية. فالتأخر في اتخاذ القرار لا يُسقِط المسؤولية عن الجريمة، بل يُعمِّقها. إن العدالة ليست فقط في اتخاذ القرار الصحيح، بل في اتخاذه في الوقت المناسب.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان