تداعيات الانتقال من الوفرة إلى الندرة

تعج صفحات التواصل الاجتماعي بسلوكيات غير مألوفة (الأناضول)

تعاني المجتمعات العربية، ومنها بالطبع المجتمع المصري، ما يشبه الصدمة الاجتماعية الحادة جرّاء عوامل عدة، أبرزها الانتقال المفاجئ من حالة “الوفرة” والاكتفاء، إلى واقع من الندرة والعوز، بفعل أزمة اقتصادية طاحنة تفاقمت خلال السنوات الأخيرة. وتضافرت عوامل هذه الأزمة ونتائجها في تشكيل حالة عامة من الإحباط واليأس وقتل الأمل في النفوس.

ومن أبرز مظاهر هذه الأزمة: الارتفاع الحاد في الأسعار، ومعدلات التضخم، والبطالة، والفقر، والجريمة، والتشرد، والإدمان، وارتفاع نسب الطلاق، والعزوف عن الزواج، وعودة مشاهد الجوع وسوء التغذية. يضاف إلى ذلك تدهور سعر صرف العملة المحلية، واتساع الفجوة بين الدخول والمصروفات، وتدهور العلاقة بين الجهد والأجر. هذه المؤشرات يمكن التحقق منها بسهولة من خلال مقارنة البيانات الرسمية أو غير الرسمية بحال البلاد قبل عشر سنوات، كما يقول المثل “اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب”.

وقد أفضت هذه الأوضاع، في المجتمع المصري على سبيل المثال، إلى نوع من “الانفصام الاجتماعي”، إذ تسعى ملايين الأسر إلى الحفاظ على مظهر الثراء والرفاه الذي اعتادت عليه، تقديرا لاعتبارات اجتماعية وثقافية، حتى لو كان ذلك على حساب صحة العائلين النفسية والجسدية. وقد استنزفت هذه الأسر مدخراتها من الثروات السائلة وغير السائلة، مثل العقارات أو المعادن النفيسة، التي كانت تمثل صمام أمان لمجاراة هذه الأوضاع. ولعل في المثلين الشعبيين “القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود” و”خد من التل يختل” تعبيرا صادقا عن هذا الواقع.

يمكن القول إن المصريين يعيشون اليوم لعبة “عض الأصابع”، إذ يخسر من يصرخ أولا، لأن ذلك يعني انهيار وجاهته الاجتماعية، وهي وجاهة قد تمثّل بالنسبة للكثيرين طوق النجاة من الانهيار النفسي. ولهذا يسعى البعض إلى التمسك بها بأي ثمن، بينما يستغل آخرون الموقف لإظهار بذخ زائف يعمّق إحساس الفقراء بعوزهم.

مظاهر استهلاكية لمجتمع الندرة

أنتجت الندرة الاقتصادية أنماطا جديدة من العلاقات الاجتماعية، أخلّت بالتقاليد المجتمعية الراسخة، خاصة في مجتمع عُرف بكرمه وتواصله، إذ أصيبت الزيارات العائلية بالبرود، ولم تعد الدعوات لها ما كانت عليه من إلحاح وإصرار. وبدلا من اللقاءات المباشرة في الأعياد والمناسبات، حلت محلها مكالمات هاتفية ورسائل إلكترونية باهتة.

وفي مشهد يذكّر بسلوكيات فردية من مجتمعات الرفاه الغربية (مثل شراء الفاكهة بالواحدة)، بدأ المصريون يشترون البطيخ بالشريحة لا بالحبة، لكن لسبب مغاير تماما، هو ضيق اليد. وتراجعت ثقافة اقتناء الأفضل، لتحل محلها ثقافة البحث عن الأرخص، ولو كان على حساب الجودة.

وأصبحت تجارة المستعمل والخردة والتقليد رائجة في كل ما يتعلق بالسلع المعمرة والمواد الاستهلاكية، حتى اللحوم والدواجن المجمدة المجهولة المصدر. كما تخلى العديد من الأسر عن بعض النفقات اليومية، بل وأصبحت تمارس هذا “التقشف القسري” في الخفاء، خشية الوصم أو الخجل الاجتماعي.

هذا الوجه “الاستعراضي” للطبقة الوسطى، يقابله انهيار تام في الطبقات الفقيرة، إذ تفشت مظاهر التفسخ الاجتماعي: بلطجة، جرائم، تجارة أعضاء بشرية، خطف أطفال وفتيات، اغتصاب، وابتزاز. وحتى استخدام الضحايا في تجارب علمية، ضمن أنشطة إجرامية منظمة.

الانحلال الأخلاقي وصعود اللاعقلانية

تعج صفحات التواصل الاجتماعي بسلوكيات غير مألوفة، من تعرٍّ إلى دعارة إلى تمجيد المخدرات. ولم تعد هذه الممارسات حالات فردية، بل تحولت إلى ظواهر يومية، تتجاوز مناطق شعبية بعينها، وتطال المجتمع كله. ويمكن القول إن تجارة المخدرات صارت واقعا يوميا لا يمكن إنكاره.

ومع غموض المستقبل، أصبح كثيرون يلجؤون إلى وسائل غيبية، مثل التنجيم والتاروت وقراءة الفنجان والزار وأعمال السحر وطقوس الشعوذة والتحاسد، بل وصل الحال بالبعض إلى تقديم قرابين للشيطان، في مشهد يشي بتراجع العقلانية وسيطرة الخوف.

الفضح والتشهير كأداة ضبط اجتماعي

في المجتمعات التقليدية، كان الفضح عقوبة رادعة للمجاهرين بالمعصية أو الخارجين على العقد الاجتماعي، وكان ذلك -رغم قسوته- دليلا على تماسك المجتمع. ورغم أن الإسلام حذّر من الغيبة والنميمة، فقد أقر الفضح في سياقات إصلاحية بحتة. لكن المشهد اليوم تغيّر، فقد صار بعض الناس يتباهون بالنصب والاحتيال، ويجاهرون بالبلطجة والرذيلة، بينما عادت مظاهر الثأر بعد أن اندثرت عقودا.

وبسبب شيطنة المتدينين، وتهميش الوازع الديني وتسفيهه إعلاميا، تحولت الأزمة الاقتصادية من فرصة للإبداع والتكافل إلى بيئة خصبة للهدم والتدمير والانحلال.

خاتمة

مع قسوة الواقع يبقى الأمل ممكنا، فالأزمات الكبرى تحمل في طياتها فرصا لإعادة البناء، والانتباه إلى أخطار الترف الطويل. وربما يكون في هذا التدهور الصادم ما يذكّرنا بوصية عمر بن الخطاب: “اخشوشنوا، فإن النعمة لا تدوم”.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان