يهود أستراليا.. قلق في ركن بعيد غير هادئ!

الجالية اليهودية في أستراليا تحتفل بأحد أعيادها (غيتي)

في أقصى جنوب شرق المحيط الهندي، وفي ركن بعيد من العالم، تقع أستراليا، الدولة القارة أو القارة الدولة، التي تبلغ مساحتها نحو 6.7 ملايين كيلومتر مربع. وبين سكانها البالغ عددهم 25.5 مليون نسمة، تعيش جالية يهودية يقدّر عددها بنحو 120 إلى 130 ألف نسمة منذ ما يزيد على قرنين من الزمان. لكن نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 3 مايو/أيار الجاري، وأسفرت عن فوز حزب العمال اليساري وتراجع التحالف الليبرالي اليميني، ألقت بظلال من الشك على أوضاع اليهود في القارة البعيدة.

جالية صغيرة بنفوذ واسع

تُعد الجالية اليهودية في أستراليا من أبرز الجاليات التي أثرت في النسيج المجتمعي والسياسي للبلاد. وعلى الرغم من قلة عددها نسبيا، فإن اليهود الأستراليين يتمتعون بحضور بارز في ميادين متعددة، ويواجهون في الوقت ذاته تحديات تتعلق بالهوية، والتطرف، والصراع العربي الإسرائيلي.

وقد حافظ اليهود الأستراليون على هويتهم الثقافية والدينية من خلال المدارس اليهودية، والجمعيات الخيرية، والمراكز الثقافية. كما يشارك الكثير منهم في الحياة السياسية والاقتصادية، وتقلّد عدد منهم مناصب مرموقة في الدولة، وكان منهم قضاة ونواب ورجال أعمال بارزون.

وبرغم هذا الاندماج، فإنه لم يكن على حساب التضامن مع إسرائيل، حيث تتمتع العلاقة بين الجالية اليهودية والدولة العبرية بأهمية محورية في الوعي الجمعي لليهود في أستراليا، مما يضعهم غالبًا في مواجهة مع الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، التي تتزايد في المجتمع الأسترالي.

علاقة متقلبة مع الجاليات الأخرى

يتراوح موقف الجالية اليهودية من الجاليات الأخرى، ولا سيما العربية والمسلمة، بين التوتر والتعاون. فبينما تُعقد لقاءات حوار بين الأديان ومبادرات لبناء الجسور، تلقي أحداث الشرق الأوسط بظلالها على العلاقات المحلية، خاصة في الجامعات والمجالس البلدية.

أستراليا.. ملاذ آمن لليهود

لطالما كانت أستراليا ملاذًا آمنًا لأصحاب الديانة اليهودية، الذين وصلوا إليها مع الهجرات الأولى للمستعمرين الأوروبيين في أواخر القرن الثامن عشر. كما فرّت إليها مجموعات من اليهود الأوروبيين من اضطهاد الحكم النازي في ألمانيا، واستقبلت أستراليا كذلك مهاجرين يهودًا من جنوب إفريقيا والاتحاد السوفيتي السابق.

يتركز وجود اليهود بشكل رئيسي في مدينتي سيدني وملبورن، حيث توجد مؤسساتهم الدينية والتعليمية والاجتماعية. وتتميّز الجالية بانتمائها إلى الطبقتين المتوسطة والعليا، مع مستوى عالٍ من التعليم والمشاركة في الحياة العامة.

السابع من أكتوبر: نقطة تحوّل

دائمًا ما كانت أحوال اليهود مستقرة في القارة المنعزلة، لكنها تبدلت على خلفية ما جرى في غزة صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما اجتازت المقاومة الفلسطينية السياج الحدودي الفاصل بين غزة وإسرائيل، وهاجمت المستوطنات المتاخمة للقطاع المحاصر ومقرات جيش الاحتلال، وقتلت المئات وأسرت العشرات من المدنيين والعسكريين.

ما بعد العدوان على غزة

رغم أن المسافة بين أستراليا والأراضي الفلسطينية تتجاوز 12 ألف كيلومتر، فإن تكنولوجيا الاتصال ألغت المسافات، وأصبحت تأثيرات ما يحدث في غزة حاضرة بقوة في الساحة الأسترالية، وبشكل خاص على الجالية اليهودية التي تعاني منذ بدء العدوان الإسرائيلي.

تسببت موجات التأييد لغزة، والدعوات لإنشاء دولة فلسطينية، والدفاع عن حق المقاومة وإنهاء الحصار، في ظهور مظاهر تضامنية عدّة، مثل المظاهرات المناهضة للاحتلال، ورسومات الغرافيتي، والعبارات التي تهاجم إسرائيل وحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة.

وتعتبر الجالية اليهودية أن هذه المظاهر معاداة للسامية، ويقول المجلس التنفيذي لليهود الأستراليين إنه رصد زيادة بنسبة 316٪ في حوادث معاداة السامية خلال عام 2024.

الطلاب اليهود في الجامعات

كشفت النتائج الأولية لمسح أجرته مؤسسة ماركوس بعد عدوان أكتوبر أن ثلث الطلاب اليهود فقط يشعرون بالأمان في الجامعات الأسترالية، وأن نحو 20% منهم توقفوا عن حضور الفصول الدراسية.

وقالت جولي ناثان، مديرة الأبحاث في المجلس التنفيذي لليهود الأستراليين، إنها كانت تعتقد أن العنصرية المعادية لليهود أصبحت من الماضي، لكنها ترى الآن أن معاداة السامية أعيد تنشيطها بشكل ساخر وتم تأجيجها لأغراض سياسية.

دعاوى قضائية وتسريبات

في سبتمبر/أيلول الماضي، رفع موظفون وطلاب يهود في جامعة سيدني دعوى قضائية ضد نائب المستشار مارك سكوت، بسبب ما وصفوه بـ”العدوان المستمر” في الحرم الجامعي، و”حملة عنصرية شرسة”. وطالب مقدمو الدعوى، وعددهم 23، بتعويضات عن “الأضرار النفسية والاجتماعية” الناتجة عن ما اعتبروه معاداة السامية.

وفي فبراير/شباط 2024، سرّب نشطاء مؤيدون للفلسطينيين نصوص محادثات على مجموعة واتساب لنحو 600 أكاديمي يهودي خططوا لحملة فصل الصحفية أنطوانيت لطوف بسبب انتقاداتها للعدوان الإسرائيلي، إضافة إلى استهداف شخصيات فلسطينية وعربية.

ورغم فصل “لطوف” فعليًّا من هيئة الإذاعة الأسترالية، اعتبر قادة اليهود أن التسريب عمل مدفوع بمعاداة السامية.

أسئلة الهوية والوجود

ترى الكاتبة الإسرائيلية دانا سيغال أن أحداث السابع من أكتوبر قلبت حياة يهود أستراليا رأسًا على عقب، إذ فوجئوا بردّ غير متوقع من الأستراليين بعد اندلاع الحرب.

وأصبح عدد لا يستهان به من اليهود يشعر بأنه لم يعد له مكان في أستراليا، وبدأ بعضهم التخطيط للهجرة إلى إسرائيل، وتقدّم آخرون بطلبات متزايدة للحصول على جنسيات أوروبية.

ووفقًا لأرقام “الوكالة اليهودية”، فقد هاجر 193 أستراليًّا إلى إسرائيل في عام 2024، بزيادة قدرها 45% عن العام السابق، وسط توقعات بزيادة الأعداد بعد فوز اليسار في الانتخابات البرلمانية، وهو تيار يبدي تفهّمًا نسبيًّا للحقوق الفلسطينية، مقارنة بالليبراليين الذين يفضلهم أغلب اليهود.

قلق متزايد رغم القوانين

رغم الطبيعة الليبرالية والمتسامحة لأستراليا، فإن تقارير المنظمات اليهودية تشير إلى تزايد في حوادث معاداة السامية، إذ لا تفرّق تلك المنظمات بين معارضة السياسات الإسرائيلية ومعاداة اليهود.

وتتعامل السلطات الأسترالية بجدية مع هذه القضايا، حيث سنّت قوانين لمكافحة الكراهية والتمييز العنصري. كما تنشط الجالية اليهودية عبر “مجلس النواب اليهود الأسترالي” في الدفاع عن مصالحها والتواصل مع أجهزة الدولة.

في الختام

تمثل الجالية اليهودية في أستراليا نموذجًا لجالية صغيرة ذات تأثير كبير، تجمع بين الاندماج المجتمعي والاحتفاظ بالهوية، وتواجه تحديات التوترات السياسية. ورغم الصعوبات، فإن اليهود الأستراليين يواصلون أداء دور فعّال في تشكيل وجه أستراليا الحديث باعتبارها دولة متعددة الثقافات والقيم.

غير أن التغير في نظرة قطاعات متزايدة من المجتمع الأسترالي إلى الجالية اليهودية، واعتبارها مجرد بوق لسياسات إسرائيل، يجعل القلق شعورًا حاضرًا بقوة لدى أبناء تلك الجالية في ذلك الركن البعيد من العالم.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان