بين المعاناة والمنع.. الطبيب المصري في عنق الزجاجة

صورة أرشيفية لأطباء مصريين في الثورة المصرية (غيتي)

“قبل أن تلوموا الطبيب على هروبه، ابحثوا عن أسباب هذا الهروب: في راتبه الزهيد، وفي ساعات عمله التي قد تصل إلى 36 ساعة متواصلة، وفي ظروف معيشته التي تشبه العقاب لا المكافأة”.

بهذه الكلمات يمكن تلخيص مأساة الطبيب المصري، الذي يجد نفسه مضطرًا إلى ترك وطنه، لا طمعًا في رفاهية، بل سعيًا إلى مجرد بقاء كريم في مهنة أصبحت تُقاس بالتضحيات أكثر من المكاسب.

فجوة بين الوعود والواقع

تبدأ الأزمة منذ عام الامتياز، حيث يقضي الطبيب الشاب يومه بين أروقة المستشفيات المكتظة، وسط نقص حاد في التجهيزات، ليحصل في النهاية على مكافأة لا تتجاوز 2600 جنيه، وفقًا للمادة الثالثة من القانون رقم 18 لسنة 2023.

ولا يقتصر الأمر على المستشفيات الحكومية، ففي الجامعات الخاصة والأهلية، يُجبر الطبيب على دفع رسوم مقابل التدريب، بدلًا من أن يتقاضى أجرًا عليه.

أما بعد الامتياز، فيدخل مرحلة “النيابة” التي تمتد لثلاث سنوات، براتب لا يتجاوز 6500 جنيه، دون تأمين صحي أو اجتماعي. في المقابل، يتقاضى الطبيب في السعودية بين 30 و200 ألف ريال، وفي الإمارات بين 30 و100 ألف درهم، وفي الكويت بين 2000 و5000 دينار، فضلًا عن رواتب أعلى في الدول الأجنبية، وساعات عمل إنسانية وإمكانات طبية متقدمة. بعض الأطباء المصريين العاملين بالخارج يتقاضون ما يعادل 20 ضعف راتب نظرائهم في الداخل!

ظروف قاسية.. ومنع من السفر!

لا تقف المعاناة عند حد الأجور، بل تمتد إلى بيئة عمل شاقة، حيث يُجبر الأطباء في المستشفيات الجامعية على نوبات قد تمتد لـ36 ساعة متواصلة، تحت سلطة أساتذة يمارسون أشكالًا من الضغط والاستغلال، في ظل نقص أماكن الإعاشة، وسوء التغذية، وتكرار الاعتداءات اللفظية والجسدية من بعض المرضى وذويهم، دون حماية قانونية كافية.

في هذا السياق، طُرحت مقترحات مثيرة للجدل، كمنع الأطباء من السفر لمدة 5 سنوات بعد التخرج، أو إلزامهم بدفع “تكلفة التعليم” حال قرروا الهجرة، وهي مقترحات رفضتها نقابة الأطباء ووصفتها بأنها “غير دستورية وغير عملية”، مؤكدة أن الحل يكمن في تحسين أوضاع الأطباء لا تقييد حرياتهم، فهل يُعقل أن يُجبر شاب درس لسنوات، وتحمل ديونًا على العمل في ظروف قاسية، ثم يُمنع من تحسين مستقبله؟!

قانون المسؤولية الطبية.. نصف حل؟

أقر البرلمان قانون المسؤولية الطبية منذ أقل من شهرين، في محاولة للحد من فوضى الاتهامات العشوائية بحق الأطباء، وقد حمل القانون بعض الجوانب الإيجابية، مثل تشكيل لجان فنية من 3 استشاريين للفصل في الشكاوى، وإلغاء الحبس في حالات الخطأ الطبي غير المتعمد، والاكتفاء بغرامة تصل إلى 100 ألف جنيه.

كما حدد القانون الخطأ الجسيم في 3 حالات فقط: العمل تحت تأثير المخدرات، الامتناع عن علاج حالة طارئة، وممارسة مهنة الطب خارج التخصص، وفرض عقوبات على الشكاوى الكيدية.

لكن رغم هذه الخطوات، ثار جدل واسع حول مواد أخرى، أبرزها المادة 23 التي تتيح فرض عقوبات أشد من قانون العقوبات، والمادة 27 التي تُبقي الغرامات ضمن الإطار الجنائي، في وقت تطالب فيه النقابة بنقل المسؤولية إلى الجانب المدني، مع غياب الوضوح حول آلية التأمين على الأطباء عبر الصندوق الحكومي المُستحدث.

اعتراف رسمي.. والحل في التقدير لا المنع

في احتفالية نقابة الأطباء الأخيرة، أقر نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبد الحي، ووزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، بتدني الأجور، وضعف الإجراءات المتخذة لتحسين بيئة العمل، وأكد الوزير –في اعتراف ضمني– أن الطريق لا يزال طويلًا أمام حل أزمات متراكمة مثل تأمين المستشفيات، وسكن الأطباء، وتمويل الدراسات العليا.

لكن الحقيقة تبقى أن هجرة الأطباء ليست خيانة للوطن، بل نتيجة حتمية لواقع غير إنساني، فبدلًا من اقتراح منع السفر، أو سنّ تشريعات ناقصة، يجب البدء فورًا بخطوات جادة تشمل:

  • رفع الرواتب لتقترب من نظيرتها العربية.
  • تحديد ساعات عمل إنسانية.
  • توفير سكن لائق وتأمين صحي شامل.
  • تعديل مواد قانون المسؤولية الطبية بما يضمن الحماية للأطباء دون الإضرار بحقوق المرضى.
  • إقرار قانون لحماية الأطباء من الاعتداءات داخل المؤسسات الصحية.

فالطبيب الذي يعمل 36 ساعة متواصلة بلا راحة، ويُهان من رؤسائه، ولا يكفيه راتبه لاستئجار غرفة، لن يمنعه من السفر سوى شعوره الحقيقي بأنه مُقدَّر في وطنه.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان