صوت في «كان».. وصمت في «غزة»

الإيراني جعفر بناهي (يمين) يتسلم جائزته من مهرجان "كان" (الفرنسية)

(1) البحث عن حقوق الإنسان في «كان»

هل كان فوز المخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان “كان” السينمائي عن فيلمه مجرد حادث لأسباب سياسية؟ أم أنه استحقاق لمخرج معروف بأعماله المتميزة؟
في اعتقادي، أن الفوز مستحق، لكنه لا يخلو من دلالات سياسية، فقد استغل بناهي الحدث، الذي غطته وسائل الإعلام العالمية، ليرفع صوته معارضًا لنظام الحكم في بلاده، داعيًا إلى حريتها وهو يحمل الجائزة بين يديه.

يتناول الفيلم محاولة سجناء سابقين الانتقام من جلاديهم، وينتمي إلى تيار الواقعية الإيرانية، الذي يتخذ من حدث عادي ومتكرر محورًا للحكاية. تتشابك التفاصيل وتصعد الأحداث تدريجيًا، فيتحول الفيلم إلى قطعة فريدة من السجاد الفارسي المغزول بعناية وصبر، تُنسَج خيوطه بمهارة فائقة تحت شعار: التفاصيل الصغيرة تصنع الفارق.

لا تقوم سينما الجوائز الإيرانية على الأحداث الكبرى، بل على قدرتها في التغلغل إلى أعماق النفس البشرية، ورصد سلوك الإنسان تحت الضغط. تصاعد الأحداث اليومية يؤدي إلى مأزق إنساني، يُظهر كيف تتعامل كل شخصية مع خيارات اللحظة والمفاجآت غير المتوقعة.

لم يمر الأمر مرور الكرام، فقد علقت رئيسة لجنة التحكيم، الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، بعد إعلان الجائزة قائلة: “الفن يحرك الطاقة الإبداعية لأثمن جزء فينا وأكثره حيوية، ويحوله إلى قوة تُحوِّل الظلام إلى غفران وأمل وحياة جديدة”.

أما التصريح الذي أثار حفيظة الخارجية الإيرانية، فكان من وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، جان نويل بارو، حيث كتب على منصة “إكس”: “فوز بناهي عمل من أعمال المقاومة ضد قمع النظام الإيراني”.
وقد استُدعي القائم بأعمال السفارة الفرنسية في طهران وأُبلغ باحتجاج شديد، معتبرين التصريح تدخلا في الشؤون الداخلية وموقفًا استفزازيًا وغير مسؤول.

يوصف النظام الإيراني في الغرب بأنه “قمعي” لا يحترم حقوق الإنسان ولا يسمح بالمعارضة، وتُبرز وسائل الإعلام الغربية هذه الرواية، بل تستضيف المعارضين وتمنحهم الدعم الكامل.

في المقابل، عُرض في “كان” أيضًا الفيلم الوثائقي “ضع روحك على كفك وامشِ” للمخرجة الإيرانية سبيده فارسي، الذي يتناول سيرة المصورة الصحفية الغزية فاطمة حسونة، التي استشهدت في قصف إسرائيلي منتصف إبريل، قبيل عرض الفيلم بأيام، وقد رثتها بينوش قائلة:
“كان ينبغي أن تكون فاطمة معنا الليلة. الفن يبقى، فهو الشهادة القوية على حياتنا وأحلامنا”.

لكن لم نسمع تعليقًا من أي مسؤول فرنسي حول الفيلم، ولا حتى تلميحًا ضد جرائم الحرب في غزة، رغم استهداف إسرائيل للصحفيين في محاولة لإسكات الصورة والكلمة التي تفضح جرائمها ووحشيتها، في مشهد يفوق فظائع النازية خلال الحرب العالمية الثانية.

(2) هم أحياء عند ربهم يُرزقون

ما يحدث في غزة لا يمكن للعقل تخيله، وليس فقط من حيث بشاعة الجرائم، بل من حيث ردّ فعل أهل غزة العظام الذين يواجهون المحن بإيمان نادر.

تناقلت وسائل الإعلام قصة الطبيبة الغزية آلاء النجار، التي فقدت تسعة من أطفالها (أكبرهم 12 عامًا وأصغرهم 6 أشهر) بقصف إسرائيلي استهدف منزلها في منطقة “قيزان النجار” جنوب خان يونس. تروي أختها، الدكتورة سحر النجار، أن آلاء عندما سمعت بنبأ فقدان أطفالها قالت: “هم أحياء عند ربهم يرزقون”.
هل هذا قولٌ عادي؟ أم أنها امرأة من نساء الجنة بإذن الله؟

لم يتبقَّ لها سوى طفل واحد، “آدم”، الذي يرقد حاليًا في العناية المركزة، نسأل الله أن يشفيه ويحفظه لها.

آلاء ليست حالة فردية، بل واحدة من مئات النساء في غزة اللاتي يفقدن أبناءهن يوميًا في قصف يُزعم أنه ضد “حماس”، بينما الهدف الحقيقي هو إبادة جماعية لشعب أعزل واحتلال ما تبقى من أرضه.

قادة الغرب يشاهدون المجازر ويغضون الطرف، وإن تحدثوا، فبلغة من يستجدي إدخال مساعدات إنسانية، لا بلغة من يطالب بوقف جريمة إبادة. لقد فضح “طوفان الأقصى” الغرب، وأسقط ورقة التوت عن ادعاءاته الأخلاقية.

(3) «فضفضات» موجوعة

إسراء الجعابيص (39 عامًا)، واحدة من الأسيرات الفلسطينيات اللاتي أطلق سراحهن في صفقة التبادل بتاريخ 25 نوفمبر 2023، بعد ثماني سنوات من الاعتقال. اختارتها وزارة شؤون المرأة الفلسطينية “امرأة فلسطين لعام 2017” لصمودها، وقد دوّنت تجربتها في كتابين: “موجوعة” و”فضفضات”.

سافرت إسراء مؤخرًا إلى تونس ومصر، حيث استُقبلت بحفاوة بالغة. تعرضت لحروق بالغة نتيجة إطلاق النار عليها وانفجار أنبوبة غاز كانت تحملها، كما بُترت بعض أصابعها، ورغم التوصيات الطبية بضرورة خضوعها لثماني عمليات جراحية، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية الطلب، في استهتار فاضح بأبسط معايير الإنسانية.

قصة إسراء، مثل قصة آلاء وغيرهن من الفلسطينيات المناضلات، تصلح لأن تتحول إلى أفلام ومؤلفات تفضح ادعاءات إسرائيل بأنها “واحة الديمقراطية وحقوق الإنسان” في المنطقة، بينما تكشف الوقائع أنها كيان استعماري وحشي، لا يمتّ للقيم الإنسانية بصلة.

الدعم الأمريكي المطلق لهذا الكيان يمنحه وقتًا إضافيًا لتزييف الحقيقة، وتكرار أسطورة “المظلومية التاريخية” عبر الإعلام والسينما، بينما يتجاهل العالم مجازر غزة التي فاقت، في أحيان، فظائع أفران الغاز النازية.

لكن كما كتب الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي:

“ولا بد من يوم معلوم
تترد فيه المظالم
أبيض على كل مظلوم
أسود على كل ظالم”

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان