مجزرة الجائعين.. كما رآها محمود درويش

الدكتورة آلاء النجار تحضن جثامين أبنائها ضحايا الإجرام الإسرائيلي (منصات التواصل)

ليس معروفًا حجم القنابل التي أسقطها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، منذ بدء الحرب حتى اللحظة الراهنة، لكن هناك تقديرات متفاوتة أعمقها دلالة، ما كشفت عنه منظمات دولية قبل بضعة أشهر، من أن قدرتها التفجيرية الإجمالية، تزيد عن قنبلتي هيروشيما وناغازاكي النوييتين.

الأخطر من ذلك أن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، كان قد كشف في تقديرات حتى نهاية العام الماضي -وليس لحد الآن- أن حصة كل مواطن غزيّ من المتفجرات الإسرائيلية، زادت عن 10 كيلو غرامات، ما يعني بالضرورة أن هذه الحصة ارتفعت أكثر، وسط صمت العالم الذي يقف متفرجًا على مأساة توزيع المساعدات الإنسانية، التي لا تغطي حاجة 10% من سكان القطاع.

مفارقة بائسة حقًا، أن الحصة من القنابل لا توازيها حصة المساعدات، التي تدافع الجائعون للحصول على الحد الأدنى منها، فقط حتى يقيموا أودهم، وقد سقط منهم الشهداء كما في “مجزرة الجائعين”، في مشهد متصل، يميط اللثام عن قبح ما يسمى بالمعايير الدولية وانحطاطها ودناءتها، بالتوازي مع ضعف أنظمة عربية وتهافتها أو تواطؤها.

اختلاف المعادلة والشروط والنتائج

على أي حال، وإذا كانت قنبلتا هيروشيما وناغازاكي قد أجبرتا اليابان على رفع الراية البيضاء، في الحرب العالمية الثانية، فرضخت للشروط الأمريكية، وعلى رأسها نزع سلاحها وتحجيم جيشها وفق شرط “اعتماد مبدأ الدفاع الذاتي”، الذي لا يسمح لـ”أرض الشمس” إلا بالدفاع في أضيق الحدود عن نفسها، فإن المقاومة الفلسطينية تأبى بعد حوالي عشرين شهرًا، أن تتجرع كؤوس الذل الصهيونية، ذلك أن المعادلة مختلفة كليًا.

في الحرب العالمية الثانية كان الصراع بين قوى أو قل “ديناصورات إمبريالية” استعمارية، تطمع في ترسيم خرائط العالم بمنطق القوة الباطشة بما يحقق مصالحها، وبمنأى عن الاعتبارات الأخلاقية، لكن المسألة في الأراضي المحتلة ليست كذلك؛ إنها مقاومة واحتلال، وإزاء هذه الثنائية لا نهاية للحرب ما لم يحصل أصحاب الحق على حقوقهم.

ميزان القوى بكل المعايير الموضوعية لا يسمح بذلك، ففي حين ترقد إسرائيل فوق ترسانة عسكرية هي الأكثر فتكًا على الصعيد الإقليمي، وبينما تفتح لها الولايات المتحدة الأمريكية مخازن السلاح، وتمدها دون قيد أو شرط، بما تشتهي من أدوات القتل، وتدعمها استخباراتيًا، بل وتتولى الحرب بالنيابة عنها، كما في حالة الحوثيين، وفيما تغض القارة العجوز الطرف عن ما ترتكبه من جرائم إبادة، حتى بدا التوجه الأوروبي مؤخرًا لإعادة النظر في الشراكة مع الاحتلال، محض محاولة لذر الرماد في عيون الرأي العام الداخلي، أكثر من كونه حراكًا فعالًا ذا جدوى لوقف المجازر.

في هذه الظروف مجتمعة، لا تجد المقاومة الفلسطينية من وسائل المقاومة، إلا أسلحة بدائية محلية الصنع، ويعيش الغزيّون تحت حصار صارم، يحرمهم كسرة الخبز وشربة الماء.

دع عنك ما تقوله الصحافة الإسرائيلية من أن إعادة النظر الأوروبية في الشراكة مع تل أبيب، يعد “تسونامي سياسيًا”، قد يسفر عن عزل دولة الاحتلال، فما في العلن شيء، وما في الخفاء شيء آخر.

أوروبا الرسمية التي تتشدق بضرورة وقف العدوان وإدخال المساعدات، مزدوجة الخطاب والمعايير، تعطي من طرف اللسان حلاوة، لكنها تضمر الشر، كما أظهر تحقيق مشترك للمجلة الإلكترونية “شومريم” والقناة 12 الإسرائيلية.

بحسب التحقيق الذي نُشر في فبراير/شباط الماضي، أي قبل أربعة أشهر فحسب، فإن الدول الأوروبية التي أعلنت تجميد التعاون العسكري مع إسرائيل، تتصرف بـ”مرونة أخلاقية” -كذلك قال التحقيق حرفيًا- حين يتعلق الأمر باستيراد المعدات الأمنية من الشركات الإسرائيلية، إلى درجة أن إسبانيا التي تبدو أكثر دول القارة تشددًا، لم تمتنع عن ذلك.

خلاصة المشهد وفحوى التراجيديا إذن، أن الفلسطينيين بغير ظهير سياسي، فلا أوروبا المتشدقة بالاعتبارات الإنسانية معهم، ولا الولايات المتحدة الأمريكية كانت معهم أو حتى على الحياد، خلال فترة العجوز الفخور بصهيونيته بايدن، ولن تكون معهم في فترة المقاول ترامب، الذي يطنطن بخرافات تحويل غزة إلى منتجع سياحي، عقب تنفيذ ما سمّاه خطة “التهجير الطوعي”.

أما العرب فتحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، وهنالك تسريبات إسرائيلية بأن قادة عربًا أعربوا لتل أبيب وراء “الكواليس”، عن مخاوفهم من انتصار المقاومة، لأن ذلك سيؤثر بغير أدنى شك سلبًا في شرعيتهم السياسية، أمام التيارات ذات المرجعيات الإسلامية في بلدانهم.

ليس مع المقاومة أحد، حتى حركة فتح الفلسطينية تحت قيادة محمود عباس، لا تستنكف عن تأثيمها إرضاء للحكومة الإسرائيلية المتطرفة، أضف إلى ذلك تراجع إيران خطوات للوراء على رقعة الشطرنج السياسية، أمام هياج ترامب وتربصه، ولكن رغم ذلك، لا يزال الفلسطينيون معتصمين بحبل النضال.

وفق المقاييس جميعها وبالنظر إلى حجم الدمار وفداحة المجازر، فإن ذلك يعني شيئًا واحدًا، ألا وهو أن المقاومة لم تُهزم حتى الآن، وهذه معجزة عسكرية فضلًا عن كونها معجزة صمود أسطورية، لا أحسب أن التاريخ الإنساني قديمه وحديثه، قد شهد لها مثيلًا.

من الدحدوح إلى آلاء النجار تتجلى الأسطورة

الظلال الأسطورية لملحمة غزة تتبدى في مشاهد متواترة متكررة. من مراسل “الجزيرة” وائل الدحدوح الذي وارى الشهداء من أبنائه وأحفاده الثرى شامخًا رافعًا رأسه، إلى الجد “روح الروح”، ثم السنوار الذي ألقى عصاه في مواجهة الطائرات المسيّرة، وهو مثخن بالجراح قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، إلى قوافل العودة إلى غزة، إبّان الهدنة المؤقتة بداية العام الجاري، وما شهدته من الغناء والأهازيج: “غزة يا غزة يا أرض العزة”، وصولًا إلى الطبيبة الفلسطينية؛ آلاء النجّار، التي استقبلت أثناء عملها جثامين تسعة من أصل عشرة أبناء، وهم متفحمون كليًا، دون أن تصرخ أو تولول أو تشق الجيوب وتلطم الخدود.

وإلى ما بين ذلك وحوله من مشاهد بالغة الاستثنائية، قد تغيب لكثرتها عن الذاكرة، وتستعصى لتواترها على الحصر، تتبدى الحقيقة بازغة.

الحقيقة أن المقاومة صامدة، وهي ليست حكرًا على مقاتلي القسّام في الأنفاق، ممن ما زالوا يشتبكون مع العدو “من المسافة صفر”، فيُسقطون من شراذمه القتلى والجرحى، لكنها تشمل الشعب الفلسطيني بأسره.

لعل ذلك هو ما يصيب مجرمي الحرب من النخبة الإجرامية الحاكمة في تل أبيب، ومن معهم من الحلفاء، بجنون يحدو بهم إلى مزيد من الوحشية والتدمير والإبادة.

مع كل لحظة تمر، يتأكد للاحتلال أن النصر العسكري المطلق، وانتزاع الأهداف السياسية للعدوان، وفي الصدارة منها القضاء على المقاومة لن يتأتى، فالقنابل المحرمة دوليًا، والقصف العشوائي الذي ينهمر فوق الأجساد فيبعثرها أشلاء، وفوق الرؤوس فيهشمها شظايا، لم يكسر “الروح الفلسطينية” التي لا تتخلى عن خيار المقاومة، لأن جينات الإنسان الفلسطيني مفطورة على ذلك.

شهيد يسعفه شهيد ويصوّره شهيد ويودعه شهيد

ذات يوم كتب شاعرنا الراحل محمود درويش عبارة بالغة الرهافة، وحين نختبرها على محك اللحظة الراهنة، نحس أنه كان كمن يقرأ كف المستقبل، أو ينظر الغد عبر كرة بلورية: “إذا سألوك عن غزة فقل لهم، بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودّعه شهيد، ويصلي عليه شهيد”.

ما من اختزال أدق، وما من توصيف أكثر إحكامًا للملحمة الماثلة أمام العيون.

غزة اليوم هي غزة الأمس التي لم تلقِ سلاحها منذ النكبة، وهي بالطبع غزة الغد، ما دام الاحتلال جاثمًا على الصدور.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان