من أجل جامعة فلسطينية في القدس

تتقدم فلسطين لتشغل مرتبة متقدمة بين الدول العربية في محو الأمية ومعرفة القراءة والكتابة، وبنسبة نحو 98% بين الفلسطينيين في الضفة وغزة، وفق “اليونسكو” والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
يُعَد الفلسطينيون، رغم الاحتلال وسياسته المنهجية في إغلاق الجامعات وحصارها، في مقدمة معدلات إتمام التعليم الجامعي عربيا. وترتفع نسبة الحاصلين على درجة البكالوريوس فأعلى إلى نحو 20% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، وتزيد بدرجتين أو ثلاث بين الإناث.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
السنة النبوية وميراث البنات المنفردات
يكتسب اللاجئون الفلسطينيون سمعة عالمية في الاهتمام بالتعليم إلى حد أن جامعة كولومبيا الأمريكية نشرت مقالا في 23 أغسطس/آب 2023 بعنوان “لماذا يشتهر الفلسطينيون بأنهم أفضل اللاجئين في العالم تعليما؟”. أشاد بدور الأونروا في هذا السياق بعدما أشار إلى استثمارها نحو 60% من ميزانيتها في التعليم والإعداد لاستكمال التعليم الجامعي. ولعل هذا يفسر أيضا الحملة الشرسة لإسرائيل والإدارة الأمريكية الجديدة على الوكالة الأممية.
بابيه وتوثيق منع الجامعة الفلسطينية في القدس
الحرب ضد إنشاء جامعة فلسطينية عربية داخل مدينة القدس، يوثقها المؤرخ اليهودي الشجاع الناقد للصهيونية إيلان بابيه في دراسة بفصلية القدس “جيروزاليم كوارترلي” في ديسمبر/كانون الأول 2022 بعنوان “لماذا جامعة عبرية فقط؟ قصة الجامعة العربية في القدس الانتدابية”.
يستشهد بآخر تقرير للجنة دولية زارت فلسطين قبل النكبة “الأنغلوأمريكية” عام 1946، وكيف أبدت دهشتها لأن أغلبية سكان فلسطين العرب تحرمهم السياسة الاستعمارية البريطانية من إقامة جامعة لهم، في حين افتُتحت الجامعة العبرية ذات الأهداف الصهيونية الصريحة بالقدس في 1 إبريل/نيسان 1925 لأقلية يهودية، ومعظمه أفرادها كانوا لا يتحدثون بالعبرية.
ويُنقل عن التقرير لومه لحكومة الانتداب ومسؤوليتها عن سياسة تمييز سرعان ما أنتجت تفاوتا لافتا بين الأعداد الكبيرة للمهنيين والطبقة الوسطى من اليهود مقارنة بالعرب جراء الفارق الملحوظ بين إمكانات التعليم المتاحة للجانبين.
تقدّم الدراسة استعراضا موثقا للمحاولات المجهضة لإقامة جامعة عربية وأخرى بريطانية وثالثة إسلامية في القدس بين عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وتكشف عن معلومات تدعو إلى التأمل، بعضها تصل خيوطه إلى القاهرة، ومنها الدور القيادي لمحمد علي علوبة باشا في مبادرة الجامعة الإسلامية بالقدس، وكان قبلها وزيرا للأوقاف والمعارف، وتبرّع زعيم الوفد مصطفى النحاس باشا بمئتي جنيه مصري لمشروع تلك الجامعة.
تجيب دراسة بابيه عن السؤالين: لماذا لم تحظ القدس بجامعة فلسطينية خلال الانتداب البريطاني بين 1920 و1948؟ وما تأثير هذا الغياب على تاريخ فلسطين خلاله وفي أعقابه؟
وتنتهي إلى عرقلة القيادة الصهيونية لهذه الجهود، وبالتوافق مع غلبة سياسة استعمارية بين رجال السياسة والإدارة البريطانية من لندن إلى القدس مسكونة بمخاوف أن تسهم جامعة فلسطينية بهذا الموقع بالذات وبرمزيته في ظهور نخبة حركة وطنية سياسية حديثة تهدد مصالح الإمبراطورية الإمبريالية على غرار ما واجهت في مصر والهند.
ومع هذا يشير بابيه إلى كفاح فلسطيني أسفر عن تكوُّن مثل هذه النخبة من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة، وكذلك الكلية العربية في القدس التي أُسست دارا للمعلمين عام 1918، وفي مقال سابق أشرنا إلى إغلاق الإنجليز لها خلال افتتاح الجامعة العبرية وجولة بلفور المشرقية.
النضال التعليمي وأهميته
رغم حرمان الشعب الفلسطيني من جامعته في القدس، فقد أسهمت رموز هذه النخبة لاحقا في قيادة حركة التحرر الفلسطيني والقومي العربي والتقدمي ثقافيا وسياسيا على مدى عقود بعد النكبة، ونذكر -على سبيل المثال- في صعيد الثقافة: جبرا إبراهيم جبرا ونقولا زيادة وإسحق موسى الحسيني.
وما زالت أجيال من الشعب الفلسطيني تخوض النضال التعليمي، سواء بجامعات ابتدعها أسرى داخل سجون الاحتلال، كما تبحث وتوثق دراسة “قسم الحاج” بمجلة دراسات فلسطينية العدد 135 صيف 2023 بعنوان “جامعة السجن في هداريم: استئلاف الموحش وفقه البقاء”، أو عبر مؤسسات للتعليم العالي في الضفة وغزة، تتقدمها منذ السبعينيات 15 جامعة درتها جامعة النجاح في نابلس، أو حتى بجامعة القدس في “أبو ديس” التي اقترحها الاحتلال خلال مفاوضات ما بعد أوسلو عاصمة بديلة عن القدس لدولة فلسطينية، ثم عاد وشدَّد الفصل بين هذه الجامعة ومدينة القدس بمسار جدار الفصل العنصري العازل.
وبالطبع ثمة كثير يقال عن النضال التعليمي للفلسطينيين بجامعات خارج أرض الوطن.
أبعد من صراع عسكري
عند انطلاق العمل بموسوعة الدكتور المسيري “اليهود واليهودية والصهيونية” خلال عامي 1983 و1984، كان يتحدث لشباب الباحثين المستدعين للمشاركة، وكنت واحدا منهم، عما يراه أحد أسباب هزيمة يونيو/حزيران 1967. كان يتذكر بسخرية مريرة وأسى أنه عندما كلفه رئيس مجلس إدارة الأهرام محمد حسنين هيكل بالإشراف على “موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية”، الصادرة لاحقا ومتأخرا عن مركز الدراسات التابع للمؤسسة بعد عراقيل في 1975، أوفده لمراجعة ملفات أجهزة الدولة الأمنية المعنية بجمع المعلومات عن إسرائيل، فاكتشف هزال ما كانت تتضمنه قبل الهزيمة.
ولن أنسى جملته “وجدت ملفات تتصدرها عناوين لكنها فارغة، وأخرى لا علاقة لها بالمعلومة الصحيحة الدقيقة”.
ولم يكن الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين وحده الذي دعا بعد هزيمة 1967 بأقل من عام، في كتاب “إسرائيليات وما بعد العدوان” الصادر من القاهرة، إلى الأخذ بالعلم والثقافة والتعليم والوعي انطلاقا من أن صراعنا مع الصهيونية وإسرائيل حضاري، وليس عسكريا فقط.
فهذه الدعوة ترددت عند آخرين بعد الهزيمة وحتى قبلها، وأكتفي بالإشارة إلى كتابَي المؤرخ والمفكر السوري قسطنطين زريق “في معنى النكبة” و”في معنى النكبة مجددا”، الصادرين من بيروت عامي 1948 و1967.
حاجتنا إلى جامعة عربية في القدس
لعل مئوية الجامعة العبرية في القدس مناسبة لتجديد الدعوة إلى إنشاء جامعة فلسطينية عربية داخل مدينة القدس، وما لا يُدرك اليوم، يتحقق غدا.
ومن أجل انتزاع حق الشعب الفلسطيني في جامعته بقلب عاصمته، ثمة حاجة إلى مطابقة الأفعال للأقوال، والمحتوى للعنوان.
لا تكرار لتجربة لجنة القدس التي أُسست بقرار من المؤتمر الإسلامي عام 1975، وعندما نراجع تقاريرها وتوصياتها لا نجد أثرا يُذكر لعمل من أجل هذه الجامعة، وهذا قبل أن تعقد آخر اجتماعاتها في يناير/كانون الثاني 2014، ثم ينضم بلد المقر والرئاسة (المملكة المغربية) إلى قطار التطبيع، وقبل أن تعود القدس إلى أهلها.