التنين الصيني يخرج عن هدوئه!

أخرجت الولايات المتحدة الصين عن هدوئها الدبلوماسي المعهود. وجهت بيجين تحذيرا شديد اللهجة لنحو 70 دولة تتفاوض على اتفاقات تجارية مع واشنطن، لخفض الرسوم الجمركية، بأنها لن ” تقبل أبدا أية اتفاقات تسعى إلى التنمر على الصين وعزلها عن العالم”.
يجري البيت الأبيض المفاوضات مع تلك الدول لدفعها إلى الابتعاد عن التجارة مع الصين، وتوجيه استثماراتهم داخل الولايات المتحدة، للاستفادة من التخفيضات الجمركية، التي بلغت 125٪ على المنتجات الصينية المتجه للأسواق الأمريكية، مقابل إزالة القيود الجمركية على منتجات تلك الدول.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتجربة شخصية مع فتوى القرضاوي تيسير الموت للمريض
حل حزب العمال الكردستاني.. هل أنهى المخاوف الأمنية لتركيا؟!
“صنع الله إبراهيم” الكتابة على دقات الحروف وصوت المذياع
وصفت وزارة التجارة الصينية تلك الممارسات بأنها عودة بالنظام العالمي إلى” قانون الغاب، حيث يصطاد القوي الضعيف”.
يقف النظام بقوة في “وجه الصلف” الذي يمارسه الرئيس الأمريكي ترامب، الذي ينتظر أن تأتي إليه الصين راكعة أمامه، لطلب الصفح والغفران.
وضعت الحرب العرب والعالم بين فكي رحا وتحولت بين عشية وضحاها، من أزمة خلافية على الرسوم الجمركية إلى معركة معيشية خرجت من مخاض وسائل الإعلام ومناقشات النخبة إلى معارك بين العاملين بالمصانع والمزارع وتراشق حاد على وسائل التواصل الاجتماعي.
تجرع المر
تدفع الأزمة الرئيس شي جينبنغ إلى دعوة المواطنين لخوض حرب شاملة وغض الطرف عن الصعوبات الاقتصادية، التي تواجههم داعيا الشعب إلى التقشف، وأن يتعلم الشباب ” تجرع المر”.
تعمل آلة الدعاية الصينية بكامل طاقتها الرسمية والشعبية لكسر الخوف من أمريكا بترديد كلمة الزعيم الراحل ماو زي دونع بأنها “نمر من ورق” وإسقاط الهالة الضخمة حول أشهر العلامات التجارية، التي يتفنن الغربيون الترويج لها، لجعل السلعة ثمينة وتوليد الطلب عليها بحثا عن الثقة والفخامة والمكانة التي تخلق شعورا لدى المستهلكين، بأهمية امتلاك السلع الغربية مهما ارتفع ثمنها والوقت الذي ينتظرونه، من أجل الظفر بقطعة منها.
لم تعد الحرب على سعر منتجات البضائع، فقط، بل أيضا لـ “فضح أسرار اللعبة التجارية، التي تجعل الغرب قادرا على بيع سلعة بأغلى من تكلفتها آلاف المرات”، بما لديه من قوى ناعمة قادرة على تغيير سلوك وعقول المستهلكين بأنحاء العالم، دون تفكير بالقيمة المادية للسلعة أو التوقف عند فوائدها بحياتهم اليومية.
فضيحة على الهواء
وظف القوميون الصينيون المنصات الإعلامية لكشف فروق الأسعار الهائلة للسلع الفاخرة، من ملابس وحقائب وأحذية وساعات وعطور وسيارات غربية تعرض بالأسواق بعشرات الآلاف من الدولارات، بينما لا تزيد تكلفتها عن عشرات الدولارات بمصانع الصين. يوجه منتجو السلع توبيخا لأصحاب علامات السلع والمجوهرات الفاخرة يتهمونهم بسرقة أموال الشعوب، لتحقيق أرباح طائلة على حساب المشترين الذين يدفعون أرقاما فلكية والمنتجين، الذين لا يجنون من وراء جهدهم إلا القليل.
استهدفت الحملة التي رصدناها على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام رسمية النيل من العلامات الفاخرة الشهيرة واحراجها أمام عملائها مثل: “لويس فيتون” و” كريستيان ديور” و”هيرميس” و”نايكي” و”أديداس” و”غوتشي” و” جوردان” و” كارتيه” و”بولغاري” و” بركين” و” لجينز” و” لولو ليمون”.
نشر العاملون بالشركات المنتجة لتلك السلع أفلاما مصورة بخطوط إنتاجها مع توظيف الذكاء الاصطناعي في الترجمة وتدقيق الصور والمعلومات حول طريقة ونسبة التصنيع التي تصل إلى 100٪ داخل الصين. تعكس الحملة الشرسة الدعم الرسمي لها، من قبل المستثمرين المحليين والحكومة التي تسيطر بقبضة حديدية على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، وتعاقب بقسوة من يخالف ضوابط التصوير والنشر.
“صنع في الصين”
يظهر الداعمون للحملة أحقية الصين بتصدير المنتجات باسمها، وأن يكتب عليها” صنع بالصين”، داعين المشترين من أنحاء العالم إلى التعامل مع مصانعهم مباشرة، بمدن غوانزو وشينزين وفوجيان والدفع بعملتهم “اليوان” عبر منصات الشراء الفوري، مثل “على بابا” و”شين” بما يضمن وصول النسخ الأصلية للسلع للمستهلكين بأسعار مخفضة للغاية، والمقلدة بدون شعار العلامة “لوجو” بأسعار زهيدة، مؤكدين أن أصحاب العلامات التجارية يسرقون جهدهم وأموالهم، لمجرد وضعهم ” صنع في أمريكا” أو في إيطاليا أو فرنسا أو المانيا.
قرر مستهلكون مقاطعة الشركات الأم للعلامات التجارية، التي حققت نموا بنسبة 35٪ من مبيعاتها بالسوق الصينية، عام 2024، بقيمة بلغت 450 مليار دولار، بما يمثل 25٪ من مبيعاتها بالأسواق العالمية.
قتال حتى النهاية
عزمت الصين على “مواصلة القتال ضد قرارات ترامب حتى النهاية” وإلحاق الضرر باقتصاده، بعد تخطيط محكم منذ سنوات، للانفصال الكامل عن الاقتصاد الأمريكي، الذي تراجعت أهميته بحجم التجارة الخارجية للصين من 19.8٪ عام 2018 إلى 12.8٪عام 2023، لذلك لم يكن لدى “شي” شغف للتفاوض مع ترامب على الجمارك المرتفعة، ورد بقسوة على تعرفة ” يوم التحرير، ويرفض الانخراط في أية مفاوضات بشأنها – إلا بشروطه- رغم التهديد بمضاعفتها.
انتشرت بيانات على الإنترنت تشجع المواطنين عن الإبلاغ عن وجود جواسيس أمريكيين – يبدو أن السلطة خلفها- لمواجهة تصعيد أمريكي موازٍ، يدعو الأمريكيين للاحتراس من العلماء الصينيين الموجودين بأمريكا، بوصفهم “جواسيس”.
وضعتنا الحرب ونظام التجارة العالمي عند مفارق طرق، إما العودة المستحيلة إلى نظام ” العولمة” الذي انقلبت عليه واشنطن أو الخروج على قواعده، بحواجز تجارية عشوائية جائرة، تعيد نفس المشاهد البائسة التي دفعت العالم منذ قرن إلى كساد عظيم.
للصبر حدود
رصدنا الأيام الماضية انخفاضا بالطلب على السلع الفاخرة، قدره خبراء بنحو 30٪، بسبب امتناع الصينيين عن شراء المنتجات الأمريكية والأوروبية، وكذلك انخفض الطلب على الصادرات الصينية، بما يرفع من مرارة الحرب التجارية على الصينيين جراء توقف آلاف المصانع عن العمل، وإفلاس أصحابها، وتعطل سلاسل الإنتاج والتصدير. شاهدنا مئات الشركات بالمدن الصناعية تخطر عمالها بأنهم ” لن يكونوا قادرين على دفع رواتبهم خلال أسابيع”، فمنهم من عاد إلى مسقط رأسه ومنهم من ينتظر أن تنقشع الأزمة أو يبحث عن مخرج قبل أن تحل به كارثة.
تتوقع منظمة التجارة الدولية تراجعا بحجم السلع المتداولة عالميا من 3٪ عام 2024 إلى 0.2٪ عام 2025، بما سيؤدي إلى خفض نمو الناتج العالمي من 2.8٪ إلى 2.2٪، هذا العام، ووضع الدول النامية -أمثالنا- في ” المفرمة”.
لا يهتم الطرفان بما يقع على الدول العربية من خسائر فادحة، بسبب الحرب التجارية المشتعلة بينهما، إلا بالقدر الذي يؤثر على اقتصادهم مباشرة.
لم يقبل الخصمان بوقوف العرب عند مسافة واحدة بينهما، بل ويدفع كل منهم دولة عربية إلى الشرك إما بيجين أو واشنطن، بما يتطلب صحوة عربية واسعة، للخروج من هذا المعترك الذي يهددنا بمزيد من التشرذم.
نخشى أن يواصل البعض الرهان على بيجين طمعا في مالها وتجارتها، وآخرون يهرولون إلى واشنطن طلبا للحماية وتوظيف ثرواتها المتراكمة، وينسون أن الصراع بين الطرفين على التجارة والنفوذ، لم يغير قواعد اللعبة الاستعمارية في المنطقة.
فرغم الحرب، لا الصين تريد إزاحة النفوذ الأمريكي بالمنطقة، طالما تؤمن القوات الأمريكية وحليفتها إسرائيل، السيطرة على تدفقات النفط للأسواق العالمية، والمرور في قناة السويس، ولا أمريكا تريد إبعاد الصين عن استهلاك النفط والغاز، الذي تستخرجه شركات أمريكية وأوروبية تدفع بعوائده إلى الغرب، ولن تتغير قواعد اللعبة إلا إذا قامت حرب حقيقة، تبدو أجواءها في الأفق، لإعادة تشكيل العالم الذي نحياه الآن.