موائدهم من عطايا الحروب

مظاهرات ضد نتنياهو في تل أبيب تحمل صور الأسرى، احتجاجًا على عرقلته إتمام صفقة الإفراج عنهم (غيتي)

يشير كثيرون إلى بنيامين نتنياهو بأنه السبب الوحيد في إطالة أمد الحرب في غزة خشية سقوط حكومته ثم محاكمته ونهايته سياسيًّا، وينسى هؤلاء أن نتنياهو وإن كان السبب الرئيس لكنَّ هناك أطرافًا أخرى عالمية وإقليمية مستفيدة، تدعم استمرار الحرب، وتعمل على تسعيرها سياسيًّا وعسكريًّا.

هذه الأطراف هم تجار الحروب ومستثمرو الدماء ومستغلو الصراعات المسلحة لتحقيق الأرباح المالية، والحوافز الاقتصادية، والأهداف الاستراتيجية.

وهؤلاء من قال فيهم الشاعر اليمني زياد النهمي:

موائدُهم من عطايا الحروب

وأبراجُهم من دماءِ الشعوب

والصراع الملحمي الدائر في حرب غزة بثقله التاريخي والاستراتيجي أكبر من اختزاله في الحديث عن صغار تجار الحروب، ولا عجب فقد أُلقي على غزة حسب تقدير أقل الإحصائيات “قوة نيرانية تعادل ثلاثة أضعاف قنبلة هيروشيما الذرية مع ملاحظة أن مساحة المدينة اليابانية 900 كيلومتر مربع بينما مساحة غزة لا تزيد على 360 كيلومترًا مربعًا”.

لذا فنحن لا نتحدث عن مجرد أثرياء حروب من سماسرة مخلفات الحرب أو مهرّبي السلع ومحتكريها أو ناهبي الموارد الطبيعية أثناء النكبات، أو حتى صناع الأسواق السوداء تحت ضغط الحصار والظروف الاقتصادية الخانقة للمدنيين.

بل نتحدث عن دول كبرى وأنظمة حكم، وشركات عملاقة عابرة للقارات في واحدة من أكثر الصناعات ربحية في العالم وهي صناعة السلاح، ومعلوم أن تلك الصناعة لا تجني أرباحها البالغة مئات المليارات من الدولارات سنويًّا إلا باستمرار الحروب الإقليمية والتوترات الجيوسياسية.

ومعلوم أيضًا أن جزءًا من تلك الأرباح الخرافية يُخصَّص لصناعة القرار في الدول العظمى، عبر جماعات الضغط التي تعمل على تشكيل السياسة الخارجية ودعم أعضاء المجالس النيابية، لضمان استمرار الإنفاق العسكري وتصدير الإنتاج، مع دعم استمرار العمليات العسكرية التي تعتمد على السلاح الأمريكي.

أرباح ملوَّثة بدماء الأبرياء

صدق من قال “في الماضي كانت الأسلحة تُصنع للقتال، أما اليوم فتُصنع الحروب لتباع الأسلحة”، وقد لا تُصنع الحرب في بدايتها كما في حالة الحرب على غزة ولكن تُؤجَّج وتُسعَّر ويُنفخ في نيرانها، لتستمر سنوات بدلًا من أيام أو أسابيع أو شهور، ولنا في الحرب الفيتنامية عبرة، وهي التي شاركت فيها الولايات المتحدة بشكل غير مباشر ومباشر لما يقرب من ربع قرن، حتى انتهت وسط علامات استفهام زلزلت المجتمع الأمريكي بشأن الجدوى من خوض الحرب مع تلك الخسائر التي لم يربح فيها سوى شركات السلاح.

وعلامات الاستفهام السابقة صاحبت أيضًا نهاية الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، إذ أشارت التقارير إلى الكميات المخيفة الهائلة من الصواريخ والقنابل والذخائر التي أُلقيت في جبال أفغانستان، بحجة القضاء على تنظيم القاعدة.

ويكفي للدلالة على ما قيل رصد حجم الانتعاش والنمو الذي حققته سوق تجارة السلاح خلال العامين الماضيين، إذ تزامن إطلاق العديد من الشركات الكبرى حملات التوظيف مع ارتفاع أسهم تلك الشركات بشكل مُفرط منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، وبذلك يُعَد تجار الحروب هم الطرف الثالث الأكثر ربحًا، لكنها أرباح ملوَّثة بدماء الأبرياء وآلام الضحايا.

وقد نقلت وكالة رويترز عن وزارة الخارجية الأمريكية أن نسبة مبيعات العتاد العسكري الأمريكي لحكومات أجنبية ارتفعت العام الماضي إلى 29%، وهو مستوى قياسي بلغ 318.7 مليار دولار.

والأمر نفسه حدث في الداخل الإسرائيلي، فقد نشر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن عائدات الأسلحة للشركات الثلاث الموجودة في إسرائيل ضمن أكبر 100 شركة بلغت 13.6 مليار دولار، وهذا هو الرقم الأعلى المسجَّل على الإطلاق من قِبل الشركات الإسرائيلية في قائمة أفضل 100 شركة عالميًّا.

المبيعات وتأجيج الصراعات

كان أيزنهاور محقًّا حينما حذر في خطاب وداعه الأخير من خطورة المجمع العسكري الصناعي وتأثيره في القرار السياسي الأمريكي، ويكفي للدلالة على نفوذ شركات تصنيع السلاح وتأثيرها ذكر ما أفادت به وكالة رويترز في مطلع إبريل/نيسان المنقضي بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعتزم توقيع أمر تنفيذي يهدف إلى تبسيط قواعد تصدير الأسلحة الأمريكية إلى دول أخرى، ومنها تخفيف شروط موافقة الكونغرس على بيع الأسلحة الأمريكية.

ويُنتظر أن يؤدي هذا القرار إلى زيادة مبيعات كبرى الشركات الأمريكية، مثل “لوكهيد مارتن” و”بوينغ”.

وهذا الأمر ليس غريبًا على إدارة ترامب، إذ سبق أن وضع خلال ولايته الرئاسية الأولى مبادرات تهدف إلى زيادة صادرات الأسلحة الأمريكية إلى الدول الأخرى، ومنها ممارسة الضغوط على الدول الحليفة، وتحفيزهم على زيادة إنفاقهم العسكري وشراء المزيد من الأسلحة الأمريكية.

وكما يقول برنارد شو “تجار الحروب لا يهمهم من يموت في المعركة، المهم أن يتواصل القتال لكي يستمر الربح”. لذا، فقد اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في بداية ولايته الحالية، قرارًا يقضي برفع الحظر الذي فرضته إدارة سلفه جو بايدن على إمدادات القنابل الثقيلة التي تزن ألفَي رطل المخصَّصة لإسرائيل.

ووفقًا لما نُقل، فإن نحو 1800 قنبلة من طراز “مارك 84″، كانت ترقد في مستودعات عسكرية أمريكية، قد تقرَّر توريدها إلى إسرائيل، ومنها إلى أرض غزة حيث يمكنها استهداف وقتل الكائنات الحية في نطاق يزيد على 300 متر من نقطة سقوطها.

ولا يقتصر نفوذ شركات تصنيع الأسلحة على الولايات المتحدة، ففي بريطانيا تتمتع تلك الشركات بنفوذ وتأثير واسعين على القرار السياسي، وقد نبَّه تقرير مطوَّل نشرته مؤسسة “الحملة ضد تجارة الأسلحة” إلى دور صادرات الأسلحة في تأجيج الصراعات العالمية، واستمرار المملكة المتحدة في تصدير الأسلحة إلى دول ضالعة في حروب وانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك إسرائيل التي تخوض عدوانًا على قطاع غزة.

كما رصد التقرير العلاقة التي وصفت بأنها مشبوهة بين شركات الأسلحة والمستوى السياسي البريطاني، إذ رفضت الحكومة ضغوطًا قانونية وحقوقية وسياسية كثيرة من أجل وقف صفقات الأسلحة المتجهة إلى إسرائيل، ليظهر بعدها أن هناك ضغوطًا قوية من جماعات الضغط لمصلحة شركات الأسلحة لتقييد أي قرار سياسي يضر بمصالحها، وفي مقدمة تلك الشركات شركة “بي إيه إي سيستمز” التي تُعَد أكبر شركة تصنيع أسلحة في بريطانيا.

اللافت في التقرير هو رصده 40% من كبار مسؤولي وزارة الدفاع البريطانية الذين انتقلوا للعمل في صناعة الأسلحة بعد مغادرتهم الخدمة العامة، علمًا بأن نسبة كبيرة منهم شغلوا مناصب في مجال الصفقات داخل الوزارة، وهو ما يؤكد المخاوف بشأن تضارب المصالح.

كما رصد التقرير ظاهرة “الباب الدوّار”، أي خروج المسؤول من الوزارة ثم عودته إليها، ولكن بصفته ممثلًا عن شركة للأسلحة.

أرخص وقود للحرب

وإنصافًا مع أنفسنا، لا بد أن نعترف بأن المواقف المخزية تُعَد الوقود الأرخص لتسعير الحرب، وأن دائرة تجار الحروب تمتد لتشمل بعض الأنظمة الإقليمية التي تجاوزت مرحلة الخذلان، ثم تجاوزت بعدها مرحلة الحصار والتآمر ودعم العدو، حتى وصلت إلى مرحلة الاستثمار في استمرار الحرب لتحقيق حوافز اقتصادية وأهداف سياسية لا تخدم سوى أنظمتها. كما ينضم إلى هؤلاء باعة المواقف الوطنية، مع فارضي الرسوم والإتاوات على تخوم مناطق الحرب المحاصرة، ومشمّري السواعد الذين يساومون وينتظرون إعادة الإعمار للحصول على أكبر جزء من الكعكة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان