هجرة الأطباء.. حالة جدلية مصرية

أطباء وطلاب بكليات الطب أثناء مشاركتهم في ثورة يناير (غيتي- إرشيفية)

ما يطلق عليه في مصر “هجرة” الأطباء، هو في معظمه “هروب” من ضنك الحياة، كما إنه ليس أمراً مستحدثاً، بدليل وجود ما يزيد على 120 ألف طبيب خارج مصر بالفعل، حسب إحصاءات 2024، نصفهم في المملكة العربية السعودية وحدها، بينما يوجد نحو 15 ألفاً آخرين في عدد من الدول العربية، والبقية موزعون على الولايات المتحدة ودول أوروبا، في الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول الإفريقية الاعتماد على الأطباء المصريين بمستشفياتها، وهو ما يشير إلى أن الظاهرة آخذة في التزايد، ما أدى إلى طرح القضية بهذا الزخم، خصوصاً بعد أنباء عن استقالة 117 طبيباً دفعة واحدة من مستشفيات جامعة الإسكندرية.

استطلاعات الرأي في صفوف ما تبقى من أطباء في مصر، يمثلون نحو 50% من العدد الإجمالي، تشير إلى أن ما يقرب من 90% منهم يرغبون في الهجرة والعمل بالخارج، حينما يجدون الفرصة مواتية، من حيث الراتب الجيد، والمكان والزمان المناسبين. الأطباء في مصر بشكل عام غير راضين عن أوضاعهم، من حيث الدخل الشهري، وإمكانيات المستشفيات المتواضعة من حيث التجهيزات والأدوات اللازمة لإنجاز العمل، وسوء تعامل المرضى وذويهم مع الطبيب، خصوصاً في أقسام الطوارئ والاستقبال، رغم قوانين التجريم التي صدرت في هذا الشأن، ووفاة عشرات الأطباء سنوياً في مواقع العمل نتيجة الإجهاد، ثم أخيراً جاءت القوانين التي تجيز حبس الأطباء احتياطياً في حالات الأخطاء المهنية، قبل أن يتم التراجع عنها، لتضيف إلى كل ما سبق من أزمات.

تجدر الإشارة هنا، إلى أن قضية الهجرة من مصر، ليست قاصرة على مهنة الطب، ذلك أن كل المهن دون استثناء مصابة بهذه الآفة، من مهندسين وصحفيين ومحاسبين وصيادلة ومبرمجين وغيرهم، إلا أن هناك بعض المهن التي تم توطينها في معظم دول الخليج على سبيل المثال، ومن بينها مهنة الصحافة، وهو ما جعل الطلب على المشتغلين بالمهنة يتراجع تماماً، في الوقت الذي يتزايد فيه الطلب على المهن الحرفية التقليدية، خصوصاً ما يتعلق منها بأعمال التشييد والبناء، كالسباكة والحدادة والنجارة والنقاشة وغيرها، وهي المهن التي تجاوز الطلب عليها دول المنطقة بشكل واضح، إلى أخرى أوروبية وإفريقية.

الأزمة آخذة في التفاقم

وربما كان العجز الكبير في عدد الأطباء بمصر في هذه الآونة، سبباً في طرح هذه القضية بين الحين والآخر، على الرغم من تخريج نحو عشرة آلاف طبيب سنوياً، من كليات الطب المختلفة، الآخذة في التوسع والانتشار، مع تيسيرات كبيرة في الالتحاق بهذه الكليات، التي كان يطلق عليها في السابق، كليات القمة، نظراً لأهمية حصول الملتحق بها على مجموع بالثانوية العامة يزيد على 97%، وقد تبدلت الأوضاع الآن بالنزول بهذا المجموع إلى درجات أدنى كثيراً بالجامعات الخاصة، ناهيك عن تلك الأعداد الكبيرة التي تلتحق بكليات الطب في عدد من الدول بالخارج، في مقدمتها روسيا ورومانيا وبولندا، نتيجة عدم الاعتداد بمجموع الثانوية العامة، وهي من بين القضايا الشائكة في هذا المجال.

الأرقام تشير إلى أن العجز في عدد الأطباء بمصر، يتمثل في أن هناك 8،6 أطباء لكل عشرة آلاف مواطن، بما يمثل أقل من طبيب واحد لكل 500 شخص، بينما يبلغ المتوسط العالمي نحو 23 طبيباً لكل عشرة آلاف مواطن، وإذا وضعنا في الاعتبار ما ذكره نقيب الأطباء من هجرة 7000 طبيب في عام واحد، مقارنة بعدد الخريجين، فإننا أمام أزمة آخذة في التفاقم، مع هذه الزيادة الكبيرة في الطلب على الأطباء المصريين، الذين سوف تجدهم بكثافة في مستشفيات إنجلترا وأستراليا وألمانيا، وحتى الولايات المتحدة، مع الوضع في الاعتبار أنهم يكتسبون هناك خبرات كبيرة، نظراً لتوافر كل مقومات العمل والنجاح، مقارنة بحالة المؤسسات الطبية في الوطن الأم.

وعلى الرغم من حالة الجدل الكبيرة، التي يشهدها المجتمع المصري الآن حول هذه القضية، ما بين برلمانيين يطالبون بمنع الأطباء من السفر، وإعلاميين يحرضون الدولة عليهم، ورأي عام يرى أنهم محقون في السفر والهجرة، للبحث عن حياة أفضل، أسوة بغيرهم من أصحاب المهن الأخرى، فإن المسؤولين على المستوى الرسمي يلتزمون الصمت، رغم أزمة المستشفيات الخانقة في هذا الشأن، لسبب وحيد، وهي أن الدولة تعتمد في هذه الآونة، بشكل كبير، على تحويلات المصريين بالخارج من العملات الأجنبية، مع الوضع في الاعتبار أن رواتب الأطباء وتحويلاتهم، تفوق العديد من أصحاب المهن الأخرى، وهو مالا تستطيع الدولة التفريط فيه.

 أهمية الاستثمار في الطب

وقد يكون التوسع في العديد من الكليات غير الطبية أمراً يسيراً، كالهندسة والزراعة والإعلام والتجارة والعلوم وغيرها، إلا أنه من الصعوبة التوسع في كليات الطب بشكل خاص، نظراً لاحتياج الكلية الواحدة إلى مستشفى مرتبط بها من أجل تطبيق الجانب العملي، الذي يعتمد عليه الطلاب بشكل كبير، والذي يعد شرطاً للحصول على ترخيص بإنشاء الكلية، وهو ما لا يتوافر لإمكانيات هذا المستثمر أو ذاك، بالنسبة للجامعات الخاصة، كما يمثل عبئاً على موازنة الدولة بالنسبة للجامعات الحكومية، وهو ما جعل كل الجامعات تقريباً، تبدأ عملها بعدد من الكليات، ليس من بينها الطب، على أمل التوسع بها مستقبلاً.

ولأن الأمر كذلك، يمكن القول أننا أمام قضية على قدر كبير من الأهمية، تتطلب الوضع في الاعتبار، أن الأزمة الحالية في عدم توافر أطباء، كانت سبباً رئيسياً في معظم المشاجرات التي تشهدها المستشفيات، بين ذوي المريض من جهة، والفريق الطبي من جهة أخرى، وإذا وضعنا أيضاً في الاعتبار أن هجرة الأطباء في حد ذاتها تمثل دعماً لاقتصاد الدولة، من حيث حجم التحويلات السنوية، ناهيك عن أن الطبيب المهاجر يعود إلى الوطن في وقت ما، محملاً بالكثير من الخبرات، فإننا أمام أزمة يجب أن تعمل الدولة على حلها، بإنشاء مزيد من كليات الطب، أياً كانت التكلفة، ذلك أننا أمام استثمار حقيقي في البشر يجب عدم تجاهله، بل يجب دعمه بشتى الطرق، في حال ما إذا آمنت الدولة بأن البشر هم ثروتها الحقيقية.

وفي كل الأحوال، يصبح الأمر رهناً بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الوطن الأم، أياً كان هو، مصر أو الهند أو السند أو غيرها، حتى يقنع المواطن، أياً كانت مهنته باستمرار الحياة داخل الوطن، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار مشاق الغربة وآلامها وسلبياتها، على الفرد والأسرة المهجرة بشكل عام، وهو ما يجعل الهجرة في حد ذاتها، لا تمثل أملاً لأي مواطن إلا في حالة الضرورة، وليست أبداً عن طيب خاطر، بما يجعل النظام الرسمي في كل زمان ومكان، من خلال سياساته، مسؤولاً عن هذه الحالة التي جعلت -في بعض الدول- الغالبية العظمى من الشعب، تنشد الهجرة إلى غير رجعة، ليصبح الوطن مجرد شهادة ميلاد من الماضي، وهي كارثة ما قبلها ولا بعدها.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان