“حزب الكنبة” في ثوبه الجديد!

لطالما نظر علماء السياسة والذين خاضوا في غمارها إلى “الأغلبية الصامتة”، أو كما أبدع المصريون في تسميتها ب “حزب الكنبة” بالسلبية واللامبالاة، إذ وصفت تلك الفئة بأنها عاجزة، وغير مؤثرة، يسيطر عليها الخوف أو الإحباط أو فقدان الثقة في إمكانية التغيير.
هذه الفئة من الناس ليست بالضرورة غير معنية بالشأن العام، إذ نجد الكثير من أفرادها على درجة عالية من الوعي السياسي والثقافي، لكنها آثرت في زمن الهزائم واليأس، أن ترتدي ثوب الصمت وتلتحف برداء الحكمة والتريث، فتأكد لديها أن التحرك لا يؤتي ثماره دائماً وأن العجلة قد تجلب الندامة.
أحزاب رقمية
غير أن وسائل التواصل الاجتماعي، أطلقت العنان لهذه الفئة، ليعود” حزب الكنبة” بتحديث جديد، فبعد أن كانت خارج حساب صناع الرأي، أصبحت تُمارس الوصاية عليهم، ليس ذلك فقط، بل انبثق عن “حزب الكنبة” مصطلح يمكن أن أطلق عليه “حزب مواقع التواصل الاجتماعي”، يدرج تحت الأحزاب الافتراضية، تلك التي لا تنتمي لأي أحزاب سياسية ولا تقسيمات دينية أو جغرافية، ولا يطمح أعضاؤها في أن يتولوا المناصب أو الشهرة، بقدر ما يعنيهم استغلال مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير والمعارضة من خلف الشاشات، وغالباً بأسماء مستعارة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsصنع الله إبراهيم.. المقاومة بالكتابة
ماذا يعني فوز الليبراليين في كندا؟!
الاستثنائية الأمريكية والتنين الصيني
ومع الوقت، تجاوز الأمر حدود المشاركة الخجولة، ليصبح لبعض أفراد هذه الفئة حسابات موثقة، يتابعها الملايين، ويثق جمهور واسع بآرائهم ومواقفهم. فتحوّلت هذه المنصات إلى منابر للنقاش عابرة للقارات وتبادل الآراء، وأسهمت في تشكيل الرأي العام وتحريكه، لتخرج من عباءة الأغلبية الصامتة.
اللامنتمون سياسيا
ما يميز الفئة الجديدة هو استقلالها التام عن الأحزاب والتيارات الأيديولوجية؛ فهي لا تنتمي إلى أي فصيل سياسي. وتعتبر نفسها “لا منتمية سياسياً”؛ فهي تستمد مواقفها من اللحظة والحدث، فهناك ( الهاشتاج) بديلاً عن الحزب، والسردية الجماعية بديلاً عن البرنامج السياسي، والترند بديلاً عن الصراخ في الفضائيات.
ومع ذلك، لا يصح اختزال “حزب مواقع التواصل الاجتماعي” في كيان واحد متماسك، إذ لا يتحدث بلسان موحد، بل يعج بتنوع الآراء وتباين الرؤى، فتراه في جدل دائم قد يثمر اتفاقاً، وقد ينفجر في معارك رقمية لا تهدأ، لا سيما بين التيارات المتطرفة داخله. ومع كل هذا التباين، فإن ما يجمع هذه الكتلة هو لجوؤها الحصري إلى الفضاء الرقمي كمنصة للتعبير، والتأثير في الرأي العام.
لذا، لا عجب أن تهاجم هذه الفئة حزباً في الصباح وتعود لتمتدحه مساءً، فليس لديها ولاء ثابت، بل تحدد بوصلتها تبعاً لتقلبات الأداء وتغير المواقف. فهنا لا تقال الحقيقة باسم النخبة، بل باسم الناس بكل ما يحملونه من هموم وتطلعات.
النبش خلف الأحداث
وأمام هذا التحوّل في المشهد، لم يعد الإعلام، سواء الرسمي أو المستقل، قادراً على التأثير في “حزب مواقع التواصل الاجتماعي”، إلا بالقدر الذي تتماشى فيه الرواية الإعلامية مع قناعات هذا الحزب الفردية. فقد تجاوز دور المتلقي السلبي، وأصبح يبحث بنفسه عن خلفيات الأحداث وأسبابها. ينبش في التفاصيل والحقائق المخبأة خلف السطور، ويسعى لتشكيل موقفه الخاص، متحولاً بذلك من مستهلك للمعلومة إلى صانع لها ومؤثر في الرأي العام.
هذا التحوّل دفع وسائل الإعلام إلى متابعة منصات “حزب مواقع التواصل الاجتماعي” عن كثب، حيث قد يكفي إطلاق وسم واحد (هاشتاغ) ليشعل ما يشبه حرباً رقمية على قرار حكومي ما، أو قضية تمس المجتمع وأمنه أو تهضم حقوق المواطن، بل إنه في كثير من الأحيان، قد تتسع رقعة هذه الزوبعة الرقمية لتتحوّل إلى موجة جارفة، تشبه “تسونامي” لتشكل رأياً عاماً، تجرّ حتى من كانوا متوافقين سابقاً مع السياسات الحكومية.
وأمام هذا الواقع الجديد، اضطرت وسائل الإعلام إلى التكيّف مع ما يطلبة هذا الجمهور الافتراضي، فأصبحت تعتمد على محتواه في بعض برامجها، مستعينة بالهاشتاغات وتغريدات المستخدمين كجزء من سرديتها. ففي بعض الأحيان، تُعرض هذه الآراء لتأكيد موقف القناة من قضية ما، وفي أحيان أخرى تُستخدم لتفنيد روايات تتعارض مع خطها التحريري. هكذا تحوّلت منصات التواصل من مجرد مصدر للتفاعل إلى مكوّن مؤثر في صناعة الرسالة الإعلامية، لا يمكن تجاهله أو القفز فوقه.
لا شك أن الأغلبية التي كانت تتهم دائما بانها صامتة، محدودة التأثير، استطاعت أن تخرج من تلك العباءة أو الوسم إلى ما هو أخطر بكثير، إذ اتاحت لها مواقع التواصل الاجتماعي أن تتحدث فأفرغت ما بجعبتها من صمت امتد دهوراً، وأصبح لها دور فاعل في تغيير مجرى الكثير من الأحداث، ليس بالضرورة تغيراً إيجابياً، بل أحياناً سلبيا ًمثل تأجيج خطاب الكراهية أو اغتيال بعض الشخصيات في المجتمع، وإيجابياً بإماطة اللثام عن الفساد والمفسدين بالصور والأدلة، باختصار إنه جيش من المخبرين والمحللين والمؤثرين والقوى الضاغطة على الحكومات والأحداث.
والأمثلة كثيرة على الدور المفاجئ والفعّال الذي باتت تلعبه “الأغلبية الصامتة” سواء في تغيير موازين القوى الانتخابية، أو الحشد للدفاع عن قضية إنسانية مثل “غزة” أو حملات المقاطعة، وفي أحيان أخرى تشكل قوة ضغط للتعجيل في اتخاذ إجراء عاجل، كما حدث مع قضية الطفل “ياسين”.
توجيه السياسات
والملفت أنه يصعب تحديد متى تصمت هذه الكتلة ومتى تتحرك، فلا مجال للتنبؤ بردود أفعالها أو خياراتها، لكنها بالتأكيد نجحت في فرض أجندات جديدة على صانعي القرار، واستطاعت أن تكون قوة لا يستهان بها في تعديل المزاج العام، وكل ذلك من دون أن ترفع شعاراً حزبياً أو تنضوي تحت راية أيديولوجية.
وهكذا فإن المجموعات الصامتة التي كانت ترمى بالسلبية وقلة الوعي، أثبتت أنها على العكس تماماً، فحين جاءتها الفرصة شاركت وحشدت وأثرت، لكنها اختارت أدواتها بعيداً عن الأحزاب والمنصات الرسمية، وأثبتت أنها قوة اجتماعية جديدة، تتحدث حين يلزم، وتُصغي حين يُغفل الآخرون، وبهذا الوعي النشط، فرضت حضورها كطرف لا يمكن تجاوزه في أي معادلة سياسية أو اجتماعية قادمة.