“سلطان وفا” فاتح قلوب القسطنطنية

كان السلطان محمد الفاتح قد فتح القسطنطينية واستتب له الأمرفيها عسكريا في عام 1453 فقد قتل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الثاني في معركة الفتح وفرت أغلبية الأعيان وعدد كبير من القساوسة والأهالي إلى روما وجزيرة رودس واليونان، واستسلم من تبقى منهم لسلطة العثمانيين على المدينة، وكانت إرادة الفاتح أن تكون المدينة عاصمة للدولة العثمانية ودارا للإسلام لتصبح (إسلامبول) وصارت بعد ذلك القسطنطينية.
مصلح الدين مصطفى
لم يكن تحويل المدينة التي كانت عاصمة الدولة البيزنطية وقلب العالم المسيحي بالعمل السهل فما زال أهل المدينة أنفسهم يدينون بالمسيحية، وهناك منهم المئات والآلاف الذين ينظرون للقادمين نظرتهم للغزاة الذين احتلوا المدينة، والعشرات من المجموعات من أهل الكنائس وجنود الإمبراطورية المتخفين في الأنفاق وتحت الأرض ينتظرون الفرصة للانقضاض على المسلمين الفاتحين.
وصل الأمر أن من تمت دعوتهم من الترك والعثمانيين للمدينة عانوا كثيرا من هؤلاء القساوسة والجنود، وكانت الأغلبية تعود إلى مدنهم سواء بورصة أو العاصمة أدرنة، وأصبح وجود المسلمين في المدينة مستحيلا في ظل الصراع مع أهل المدينة وقادتها الذين يعملون في الخفاء من أجل عودة السيادة عليها.
اقرأ أيضا
list of 4 items“صنع الله إبراهيم” الكتابة على دقات الحروف وصوت المذياع
وداعا محمد حلمي القاعود.. صاحب القلم الهادئ والفكر الصاخب
حتى تكتمل فرحتنا بنجاح البلشي
كان أحد معاقل الصليبين والمسيحيين حي (سيفرافي) قلب القسطنطينية وفي أعماقه يتخفى فيها كل المقاومين للفتح، والأكثرية من أهله من المتعصبين ضد الفتح والمسلمين، وكان على رجال الدولة العثمانيين أن يجدوا حلا لعودة المسلمين وتمسكهم بالبقاء في جزيرة المدينة، ومحاولة خلخلة تلك المجموعات التي تهاجم بيوت المهاجرين وأعمالهم وأسرهم.
بحثوا عن شيخ يستطيع أن يثبت قلوب الأهالي ويجعلهم يتمسكون بحلم تحويل المد إلى دار للإسلام، وأرسلوا طلبهم إلى واحد من كبار الصوفيين في بورصة وهو الشيخ (عبد اللطيف المقدسي) طالبين منه الحضور للمدينة وكان أن رشح الشيخ أحد تلاميذه ومريديه ليقوم بتلك المهمة وهو مصلح الدين مصطفي الذي كناه شيخه بسلطان وفا، وهناك بعض المصادر التي يشتهر بها باسم (أبو الوفاء)
يقول ابن خلدون عن مصلح الدين مصطفي ” كان جامعًا بين العلوم الباطنة والعوالم الظاهرة وكان يعرف الموسيقى معرفة تامة، وكان يختار الخلوة على الصحبة، وقصد السلطان الفاتح أن يشاهده فلم يقبل أن يجتمع معه وكذلك قصد ولده السلطان بايزيد فلم يرض هو أن يرى السلطان وكان حنفي المذهب”
في مصادر أخرى يقولون إنه” اخذ التصوف اولا عَن الشَّيْخ مصلح الدّين الشهير بإمام الدباغين وَقد مر ذكره الشريف ثمَّ انْتقل بِأَمْر مِنْهُ الى خدمَة الشَّيْخ عبد اللَّطِيف الْمَقْدِسِي وأكمل عِنْده الطَّرِيقَة وَأَجَازَهُ للإرشاد وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى جَامعا للعلوم الظَّاهِرَة والباطنة وَكَانَت لَهُ يَد طولي فِي الْعُلُوم الظَّاهِرَة كلهَا وكل مَا شرع هُوَ فِيهِ كَانَ لَهُ شَأْن عَظِيم من التَّصَرُّفَات الفائقة وَكَانَ عَارِفًا بِعلم الوفق وَظَهَرت لَهُ ببركته تَصَرُّفَات عَظِيمَة وَكَانَت لَهُ معرفَة تَامَّة بِعلم الموسيقى وَكَانَت لَهُ بلاغة عَظِيمَة فِي الشّعْر والانشاء وَكَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة وَيقْرَأ خطبا بليغة”
سلطان وفا
قصة حياة سلطان وفا كانت محور العمل الدرامي التركي الذي يحمل نفس الاسم وقدم في شهر رمضان الماضي في ثلاثين حلقة بلغت 35 ساعة تليفزيونية وهو من الاعمال ذات الموسم الواحد ويبدأ العمل بمشهد مشترك بين فريق عمل مسلسل (محمد سلطان الفتوحات) وفريق عمل سلطان وفا، وهو المشهد الأصلي الموجود في الحلقة 29 حينما بلغ السلطان الفاتح أن سلطان وفا صاحب فضل في إنقاذه من الاغتيال، وأنه حول الحي الذي كان معقل المجموعات المقاومة من الصليبيين والأكثر تعصبا ضد الإسلام إلى حي أغلبه من المسلمين وثبت وجود المهاجرين إلى المدينة فيه، ولكن سلطان وفا لم يقبل بزيارة السلطان وأعاده من أمام الباب.
ينتهي العمل الدرامي بمشهد لمحمد الفاتح ومصلح الدين مصطفي يسأل فيه الفاتح سلطان وفا عن السر الذي جعله لا يقبله مع أن باب التكية مفتوح لكل من يجيء إليها فالقاعدة الصوفية “لا نقول لمن جاء لماذا جئت، ولا نسأل الذاهب لماذا يذهب”
رغم أن الفاتح كان لديه الكثير من أهل أئمة الصوفيين على رأسهم معلمه أق شمس الدين، والذين جاءوا أثناء الفتح داعمين لجيشه إلا أنه أصر على معرفة هذا الذي رفض مقابلته، وسر الرفض، قال سلطان وفا “أنه خشي على السلطان المعروف بقربه من الصوفيين، ورقة قلبه أن يصبح أحد مريديه وتلك خسارة لكليهما، فهم يحتاجون لسلطان عادل يقيم العدل، كما يحتاج لسلطان وفا يفتح القلوب، ولا مجال لخسارة سلطان يحكم بالعدل ليكون مريدا، بل يحتاجونه حاكما قويا عادلا”..
هذه المقابلة هي من تأليف كاتب الدراما التليفزيونية، فتاريخيا تؤكد العديد من المصادر أن اللقاء لم يتم، وكما قال ابن خلدون أن وفا سلطان لم يقابل السلطان الفاتح ولا ابنه بايزيد خان الذي مات في عهده 1491 ميلاديه في عهد بايزيد، وكان السلطان محمد الفاتح قد بنى مسجدا باسمه في منطقة الفاتح بإسطنبول، وقد دفن فيه، والمسجد موجود في الحي المسمى (حي وفا) للآن ويزوره الكثيرون حتى اليوم.
ما بين مشهد الرفض التاريخي ومشهد اللقاء الدرامي تدور أحداث العمل الدرامي سلطان وفا أو فاتح القلوب في القسطنطينية مصلح الدين مصطفي الذي كان رئيس المعلمين في المدرسة العثمانية الكبيرة في بورصة، أحد أهم علماء الفلك في الدولة العثمانية، والعالم في ذلك الحين، والذي أقر بالدفوف والموسيقى أثناء الذكر وكتب الأشعار وكان عالما فقيها.
سلطان وفا صاحب مقولة ” الصوفي له عملان أولهما العبادات وهو الصلاة والصوم والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا، والعمل الثاني هو خدمة الناس بالعلوم والخدمات العامة فليس للصوفي أن يعيش ليله ونهاره في العبادات والذكر، وعليه أن يسعى إلى خدمة البشر” لم يفرق في خدمته بين مسلم ومسيحي ويهودي وربما كان هذا أحد أسباب أن يصبح فاتحا للقلوب، وللدراما والقلب حكاية أخرى.