مأساة الإعلام العربي.. سيف الاستبداد وذبيحه

مظاهرة في تونس العاصمة هذا العام للتنديد بالقيود على الصحافة
مظاهرة في تونس العاصمة هذا العام للتنديد بالقيود على الصحافة (غيتي)

من بين خمس مستويات لمؤشر حرية الصحافة الذي أصدرته مؤخرا منظمة مراسلون بلا حدود عن العام 2025 تقبع الدول العربية في المستوى شديد الخطورة باستثناء قطر وموريتانيا وجزر القمر التي تقع في حالة أخف نسبيا، وصفها المؤشر بـ”حالة إشكالية”، بينما ظلت مصر وسوريا في قائمة أسوأ عشر دول انتهاكا لحرية الصحافة (مصر في المركز 170 وسوريا في المركز 177)، وتراجعت تونس التي كانت في المركز الأول عربيا بعد ثورة الياسمين إلى المركز 129 عالميا بتراجع 11 مركزا عن العام الماضي دفعة واحدة بسبب تصاعد القمع من الرئيس قيس سعيد ضد الإعلام الحر والمستقل.

ما سبق هو بعض مؤشرات عن حالة الإعلام العربي في ظل الحكم الاستبدادي الذي يغطي سماء وأرض المنطقة، الذي يستغل الإعلام أسوأ استغلال، وفي الوقت نفسه يذبحه بلا رحمة ولا شفقة إذا حاد عن الخطوط المرسومة له.

إعلام بيروت ولندن

كان الإعلام العربي ولا يزال في معظمه ملكا للحكومات ومعبرا عنها، ولم يسمح للشعوب بامتلاك إعلام معبر عنها إلا في حالات قليلة مكانا وزمانا، وهنا نتذكر أن العاصمة اللبنانية بيروت كانت ولعقود طويلة هي عاصمة الإعلام العربي الحر نسبيا، حيث تسابقت بعض الأنظمة العربية عبر أجهزة مخابراتها إلى تأسيس، أو شراء، أو تمويل  صحف أو إذاعات لتكون أدواتها في مواجهة خصومها من الحكومات العربية الأخرى، ولتوصيل صوتها إلى بعض الفئات المستهدفة، التي لا يصلح معها إعلام البروباجندا، ثم ازدهر الإعلام الخليجي شكلا لا مضمونا بفضل الفوائض المالية التي أُغدق جزء منها على بهرجة الإعلام، حيث تصدر الصحف في ورق فخم يختلف عن صحف الدول العربية الفقيرة، وحيث تمتلك القنوات التلفزيونية استوديوهات وصالات تحرير ووسائل بث حديثة، لكنه ظل إعلاما محليا غير قادر على تجاوز الحدود باستثناء بعض الصحف والمنابر التي أسستها حكومات عربية في لندن أو باريس.

كانت فترة الربيع العربي هي العصر الذهبي للإعلام في البلدان التي شملتها تلك الموجة، وهو ما انعكس إيجابا على إعلام دول عربية أخرى، وبلغت حرية الإعلام منزلة لم تبلغها من قبل، سوى في العصر الليبرالي في مصر منذ العشرينيات حتى الخمسينيات من القرن الماضي، وفي بعض التجارب العربية الأخرى، وقد أشرنا من قبل إلى نموذج لبنان.

الجزيرة هي الاستثناء

ظل الإعلام العربي بشكل عام محليا وفي أحسن الأحوال إقليميا، باستثناء شبكة الجزيرة التي استطاعت النفاذ إلى جمهور غير عربي، ونافست كبريات المحطات العلمية عبر قناتها الدولية، وعبر بعض القنوات المخصصة لبعض المناطق مثل الجزيرة البلقان، والجزيرة أمريكا، وإن أغلقتا لاحقا.

مع موجة الثورات المضادة كان الإعلام سيفا من سيوفها، وقد ضخت بعض عواصم تلك الثورات المضادة مليارات الدولارات لتأسيس أو دعم صحف وقنوات لتشويه المسارات الديمقراطية الجديدة ووصفها بكل نقيصة، وحرضت الناس ضدها، ثم كان الإعلام أول ضحايا تلك الثورات المضادة وما أنتجته من حكومات مستبدة عبر إغلاق القنوات والصحف والمواقع الخبرية المناهضة للحكومات الجديدة، وعبر فرض سياسة الصوت الواحد، والتضييق على الأصوات المستقلة حد خنقها، وظل الإعلام في بقية الدول العربية يعمل تحت الأسقف التي حددتها لها السلطات الحاكمة، ومن يتجاوز تلك الأسقف فإن مصيره الحبس أو الفصل أو المنع من الكتابة أو الظهور التلفزيوني.. إلخ.

غزة الفاضحة

في غزة تبدو الصورة أكثر قتامة مع الاستهداف الإسرائيلي المباشر والمتعمد  للصحفيين والمراسلين والمصورين، الذي أودى بحياة 210 منهم حتى الآن، في أكبر مذبحة للصحفيين لم يسبق لها مثيل، والمشكلة الأكبر أن الإعلام الرسمي العربي في بعض الدول العربية تماهى بدرجات مختلفة مع الرواية الإسرائيلية في تخطئة المقاومة، وتحميلها مسؤولية المذابح التي يتعرض لها أهل غزة، واستعانت بعض وسائل الإعلام العربية بمسئولين وخبراء إسرائيليين لترويج تلك الرواية الإسرائيلية، ومرة أخرى كان الاستثناء هو شبكة الجزيرة بشقيها العربي والدولي إذ قدمت الرواية الفلسطينية للشعوب العربية وللعالم، واستطاعت مواجهة سيول التضليل الإعلامي المروجة للأكاذيب الإسرائيلية.

التحديات التي تواجهها منطقتنا العربية كبيرة جدا خاصة في ظل مساعي إعادة تشكيلها وفقا للمنظور الصهيوني المدعوم أمريكيا، ومحاولات فرض سياسات عليها تمس السيادة الوطنية، ويقف الإعلام الرسمي العربي عاجزا عن مواجهة تلك التحديات لافتقاده للمهنية والمصداقية، بينما تتصدى بعض المنابر الإعلامية المستقلة لتلك التهديدات في حدود طاقاتها المتواضعة، كما تلجأ الحكومات العربية إلى الإعلام الغربي نفسه لنقل وجهات نظرها التي عجز إعلامها عن نقلها.

طريق النجاح

الإعلام هو أحد أهم أسلحة القوى الناعمة، وإذا امتلك الحرية والمهنية وتوفرت له الإمكانيات المادية، فإنه سيكتسب مصداقية لدى الشعوب العربية، وكذا لدى بقية شعوب العالم ومؤسساته وحكوماته، وسيكون قادرا على نشر وتسويق روايتنا العربية للأحداث، ومواجهة السرديات والسياسات والثقافات المضللة التي يسعى العدو الصهيوني أو الغرب الاستعماري لفرضها.

لا تقتصر مأساة الإعلام العربي على فقدانه الحرية والاستقلالية التي تفقده أيضا مصداقيته، ولكنه يتعرض لأزمات اقتصادية متصاعدة تجبره على تقليص أنشطته، وتقليص أعداد كبيرة من موظفيه، ولا حل لهذه المعضلات سوى بتوفير الحرية والتنافسية، وفتح المجال لتأسيس إعلام بتمويلات شعبية حقيقية أو عبر وقفيات أهلية بعيدا عن التحكم السلطوي.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان