الفرز التاريخي العظيم بين اليسار والإسلاميين

أسئلة بسيطة طرحناها منذ زمن ونواصل طرحها في بساطتها: ما سرّ العداء الغربي للإسلاميين في نفس الوقت الذي يصر فيه منظرو تيارات اليسار والقوميين على تحليلات سياسية (وفكرية) ثابتة بأن التيارات الإسلامية (الإخوان المسلمون وغيرهم) هي صنيعة مخابرات غربية في نشأتها ومآلاتها وأدوارها تصب دوما لصالح الغرب الاستعماري؟ وقد زاد ظهور داعش في إسناد هذا الطرح. فلماذا يعادي الغرب صنائعه إن كانوا فعلا كذلك؟
نقدم لهم صورا ووقائع عن لقاء مصالح بين الأنظمة العربية الموصومة بالرجعية والخيانة وبين الغرب الاستعماري حيث تظهر لنا مباركة الغرب لكل قمع يسلط على الإسلاميين في كل مكان، في حين نرى تيارات اليسار والقوميين بمنجاة من القمع، رغم أن خطاب اليسار والقوميين هو الأسبق في الزمن ضد الأنظمة وضد الغرب في آن واحد وفوق ذلك هو دوما الأعلى نبرة والأوضح مصطلحا، لكننا لم نحظ أبدا بإجابات شافية وإنما بوصم يتكرر بأن مجرد طرح هذه الأسئلة يضعنا في خانة الإسلاميين بما يغلق كل باب للحوار.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفأر يثير الذعر في “بي بي سي” ويطيح بنجم برشلونة!
الحج.. في زمن انفلات الأسعار!
الهواء الملوث.. عدو خفي لعظام النساء بعد الستين
الإجابات المفقودة تجبرنا على إعادة بناء خريطة الولاءات والمواقع إزاء الغرب وعملائه من الأنظمة، في علاقة بالمسألة الوطنية وبمسألة الحريات عامة وبمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
نعود إلى حركة التحرر من الاستعمار
وهو تاريخ طويل لا يمكن للمقال استيعابه لكن بعد حركة الاستقلال وأثناء بناء الدول سبق اليسار العربي والقوميين العرب إلى حديث ربط التحرر الوطني ببناء الاقتصادات الوطنية خاصة بعد تبين طبيعة الأنظمة الحاكمة بعد الاستعمار. في هذه المرحلة كانت أسماء مثل محمد مصدق في إيران وباتريس لوممبا في إفريقيا وسلفادور اللندي وكاسترو في أمريكا اللاتينية وعبد الناصر في مصر أعلام تحرر يتعلم منهم الناس أهم المبادئ التحررية بل أساليب الحرب الشعبية (فيتنام وكوبا).
وهؤلاء أعلام يسار عالم ثالث مؤسس تعلم منه اليسار العربي. في تلك الحقبة (الخمسينيات والستينيات) لم يكن الإسلاميون شيئا مذكورا. والسردية الأقوى تأثيرا في صفوف الشباب هي سردية اليسار المنتمي إلى يسار عالمي يبني أطروحة حركة تحرر عالمية من الإمبريالية.
في هذه المرحلة أيضا وصل القوميون العرب إلى السلطة فصاروا هم السلطة في أكبر البلدان (مصر والعراق وسوريا والجزائر)، فحدث انفصال بين اليسار والقوميين الذين بدؤوا حركة القمع العربي للشعوب وللمثقفين جامعين اليسار والإسلاميين في نفس السجون.
في ثمانينيات القرن العشرين بعد ثلاثين سنة من الاستقلال تقريبا اتضح وجود الإسلاميين في الشوارع العربية قاطبة فحصل انحراف عجيب. هذا الانحراف يحيرنا وحوله نطرح الأسئلة.
مال اليسار بمجامعيه والتحق به قوميون فقدوا السلطة إلى صفوف الأنظمة في حربها ضد الإسلاميين وهي الحرب التي قلنا إن الغرب يباركها ويمولها ويسند من يخوضها بقوة المال والسلاح. مع ملاحظة ضرورية في هذا السياق هي أن خطاب اليسار المعادي للإمبريالية لم يتغير ولم يخفف النبرة ولكن الممارسة على الأرض اختلفت بشكل كبير. ظهر عدو مشترك للأنظمة ولليسار وللغرب واتحد الجميع في حربه ومنعه من الحياة أما سر هذا التحالف فقد أعجز كل تحليل يزعم العلمية.
تناقض خطاب اليسار وممارساته
تقوم سردية اليسار على أن الأنظمة التي قامت بعد الاستقلال هي أنظمة تخدم مصالح الإمبريالية التي تعادي تطلعات الشعوب للحرية. أنظمة صنعها الاستعمار ويدعمها ضد تطلعات الشعوب. لذلك فإن حركة نضال الشعوب (بقطع النظر عن معتقداتها) هي حركة تحرر وطني دائمة. وهذه السردية تجعل اليسار والقوميين والإسلاميين في خندق واحد لأن كل المكونات البشرية لهذه التيارات قادمة من منشأ اجتماعي واحد. فجميعهم أبناء الفقراء والطبقات الجديدة الناشئة في دولة الاستقلال. وقد مروا بنفس الصفوف الدراسية في نفس المدارس وتلقوا مقررا واحدا. لكن وحدة المنحدر الاجتماعي لم تصنع وحدة نضال ضد الأنظمة العميلة. وهنا السؤال الملح لماذا اختلفوا خاصة أن كل الإسلاميين منذ ظهورهم أعلنوا العداء الجذري للأنظمة؟
جزء من الإجابة الذي يقدمه اليسار دون القوميين هو أن الإسلاميين يعادون الأنظمة لأسباب عقائدية دينية وليس لأسباب اجتماعية والصراع العقائدي صراع رجعي لا صراع طبقات متناقضة. يقول اليساري إن الإسلامي يخرب الصراع الطبقي بتقديم الجانب العقائدي على الجانب الاجتماعي وبالتالي لا يمكن التحالف معه. وهذا واقعي لكنه ينكر أن الإسلامي غير خطابه من أولوية العقائدي إلى أولوية الاجتماعي وقد تعلم الكثير من الثورة الإيرانية أول انتصارها (للتذكير اليسار العربي عادى الثورة الإيرانية ووصمها بالظلامية).
لقد حصل انقلاب عجيب في لحظة تاريخية أعجب. حركة دينية (الخمينية) قامت بثورة اجتماعية وتبنت مشروع محمد مصدق فتبناها الإسلاميون العرب وعاداها اليسار العربي متخليا عن مصدق. وقد عشنا معاركهم في الجامعة التونسية يوما بيوم حول مَن أجدر بقيادة الثورة الاجتماعية ضد الإمبريالية الغربية؟
كان ذلك زمن تحول اليسار العربي إلى حليف للأنظمة ودخوله في ظلها فحصّل منعة من كل مطاردة واشتدت مطاردة الإسلاميين في كل قطر وصاروا أعداء معلنين للغرب وكانت مطاردتهم سببا لشرعية الأنظمة الأداتية. لم يخلص اليسار لتحليلاته الاجتماعية، بل توقف عند رسم نظري يقصي حامل الفكرة الدينية من كل تحالف، دون أن ينتبه في الآن نفسه إلى أن الأنظمة التي تحالف معها سرا وجهرا هي أنظمة رجعية تستخدم الدين برؤية سياسية أكثر رجعية من رؤية الإسلاميين.
الربيع العربي رتب المواقع من جديد
الربيع العربي الذي نصر على رؤيته ثورة اجتماعية أعاد ترتيب المواقع وغربل المتكلمين بعداء الغرب وقيادة معركة التحرر المنقوصة.
لقد تحول الإسلاميون إلى حركة اجتماعية أو أوشكوا على ذلك لولا الانقلابات العسكرية التي صنعها الغرب ودعمها اليسار بكل حماس في كل قطر عربي.
لقد تراجع الخطاب الدعوي عند إسلاميين كثر وأنجزوا في فترة قصيرة جدا إنجازات اجتماعية، ولم يتوانوا عن الانخراط في معركة تحرير فلسطين بدءا من غزة فلم يتركوها وحدها. ومع ذلك تمسكوا بالحرية السياسية ودعموها وفسحوا للإعلام الحر وحتى المعادي لهم فلم يسجنوا صحفيا ولا أحرقوا كتب اليسار. ولا ندري وقد أسقطوا بقوة الغرب وبقوة المنظومات الساقطة ماذا كان سينتج عن فترات حكمهم لو طالت أكثر.
كان الربيع العربي فرصة تحالف كبير بين اليسار وبين الإسلاميين على قاعدة خطاب اليسار التحرري (السردية الأولى). لكن اليسار لم يذهب في هذا التحالف بل متن علاقته برأس المال التابع ومنظوماته الحاكمة واشتغل عندهم معول هدم فخرب الثورة واكتفى بمكسبه العزيز بلاد عربية بلا إسلاميين. وهو الآن يتمتع بهذا الموقع ويقطع كل طريق للعودة إلى مبادئ الربيع العربي. ولم يكن الغرب الاستعماري يطلب أكثر من ذلك.
لا نوزع الوطنية ولا نخضع للديماغوجيا اليسارية
على الأرض العربية شاء اليسار أم أبى، الإسلاميون الآن وهنا وبكل نواقصهم هم الحركة الاجتماعية الحقيقية التي تهدد مصالح الغرب في المنطقة العربية.
وسواء رضي اليسار العربي أم تنكر للحقيقة فإن دوره الآن هو دور مكمل لعمل الأنظمة القائمة منذ الاستقلال، خدمة الغرب الإمبريالي والتخلي عن السيادة الوطنية. وما بقي من معزوفاته الأيديولوجية لم يعد ينطلي على من اختبر اليسار منذ خمسين عاما.
من هذه الزاوية يتأسس خطاب نقدي جديد غير يساري الهوى وموجه بالتحديد للإسلاميين. يتركز على مساءلة إيمانهم بالاجتماعي والتحرري (الوطني والقومي). أي أن يصيروا موضوعا للقراءة والتقييم بصفتهم حركة اجتماعية حقيقية لا بصفتهم التي يصر عليها اليسار حركة دينية رجعية. أي أن السؤال الموضوعي الذي عليهم الإجابة عنه (كم فيهم من الاجتماعي والتحرري؟ وهذا يسقط السؤال عن سلامة عقائدهم أو مقدار تدينهم).
ولأنهم ليسوا في السلطة الآن بل في سجون الأنظمة التي يحرسها اليسار فإن الحكم عليهم حكما واقعيا يظل منقوصا وعدائيا، بينما يسهل علينا القول إن اليسار خرج من كونه حركة اجتماعية ووقف عند بوق سلطة رجعية يدافع عن المظالم ويشارك فيها بحماس ويغفل كلية وبلا تردد كل انتماء اجتماعي.
ولنذكر بلا وجل أن اليسار العربي (إلا قلة من أفراد بلا وزن فعال) في الربع الأول من القرن 21 وقف ضد الإسلاميين ومع نظام بن علي ومبارك، ويدافع عن الانقلابات العسكرية في كل مكان ويبكي على نظام بشار الأسد، بل ينوح على التنسيق الأمني المقدس في الضفة المحتلة.
هنا نفهم سر عداء الغرب للإسلاميين واحتضانه لليسار بنفس العقل الذي حمى الأنظمة العميلة. هنا نختم بأن الثورة الاجتماعية التحررية مهما تأخرت سيقودها إسلاميون رأيناهم يتعلمون أشد الدروس قسوة ويعملون بها. لقد حدث الفرز التاريخي العظيم هنا مكسب الربيع العربي وهنا وعده القادم.
لكن لا بد من جملة خاتمة، الإسلاميون لم يبلغوا جميعهم مبلغ الحركة الاجتماعية التي تقود معركة تحرر، ففي ردهات كثيرة من حراكهم وقولهم نلتقط ثمالة من خطاب شريعي يستتيب الناس ويزعم ملك مفاتيح الجنة.