صلاح الدين يودع جمهوره بسجدة في الأقصى

“سنعلم الأطفال عبر الأجيال أن فتح القدس سيكون بالسجود لله والوحدة”.. هذه هي الجملة الأخيرة في العمل الدرامي فاتح القدس: صلاح الدين الأيوبي، الذي عرضته شاشة التلفزيون الرسمي التركي TRT على مدار موسمين دراميين، وبلغ عدد حلقاته 58. يُعد هذا العمل من أبرز المسلسلات التي قُدمت خلال العام الماضي من حيث الكتابة الدرامية، والإخراج، وفريق العمل، إلى جانب مسلسل سلطان الفتوحات: محمد الفاتح، الذي تزامنت حلقته هذا الأسبوع مع الذكرى 569 لفتح القسطنطينية في 29 مايو/أيار 1453.
كان المشهد الختامي لـ”فاتح القدس” في ساحة المسجد الأقصى سجدة طويلة لصلاح الدين، ونائبه القاضي الفاضل، وقائده المميز كاراكوش، ورفيق مشواره كاراتكين، واليسع التاجر المسيحي الذي كان متآمرا ضده، ثم أصبح من أخلص مَن عملوا معه، بل لعله كان الخَضِر في رحلة صلاح الدين الدرامية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
استسلم لصلاح الدين وسلمه المدينة أحد أشجع فرسانها المسيحيين (باليان)، وهو من نبلاء فرسان الملك عموري الثاني ملك القدس، الذي توفي في الموسم الأول. تم هذا الاستسلام بعد هزيمة الصليبيين في معركة حطين تحت قيادة ملك القدس “غي”، والقائد الدموي “أرناط” أو “الضبع الأحمر” كما كان يسميه أبطال المسلسل. وقد قَتل صلاح الدين “أرناط” لما اقترفه من مجازر ضد المسلمين، وخاصة الحجاج، بينما عفا عن ملك القدس “غي”، وكذلك عن “باليان” منافسه النبيل. وكانت من أبرز نقاط التميز في العمل إبراز قوة الصليبيين وتنوع قادتهم بين المخلص والانتهازي، وبين مصاصي الدماء أمثال “أرناط”.
طريق طويل
العمل الدرامي، الذي امتد لأكثر من 140 ساعة، كان شاقا ومتعبا لكل فريق الإنتاج. وقد كانت الكتابة الدرامية أبرز عناصر التحدي منذ البداية، فصار كل مشهد بمثابة لوحة فنية مكتوبة بدقة ومنفذة بإتقان بصري. تناول الجزء الأول سيرة صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب منذ ولادته، وتربيته في كنف السلطان نور الدين زنكي، الذي زرع فيه حلم تحرير القدس. وقد شهد الموسم الأول العديد من الصراعات والشخصيات المؤثرة، وكان من أبرزها شخصية نور الدين، التي قدمها الممثل التركي المميز محمد علي أوغلو.
أما الموسم الثاني، فقد ركز على رحلة صلاح الدين بدءا من تحرير مصر من الفاطميين، مرورا بوفاة نور الدين زنكي، ثم توليه حكم الشام، وفتح أبلين والكرك، حتى معركة القدس الكبرى.
كما توقعنا منذ أسبوعين، انتهى المسلسل نتيجة ضعف الإقبال الجماهيري عليه أثناء عرضه، إذ لم تتجاوز نسبة المشاهدة 3 من 10. فقام فريق العمل بتكثيف الأحداث في الحلقات الأخيرة، حيث تضمن المشهد الختامي توحيد أمراء مصر والشام وحلب والموصل، رغم اعتراض أبناء الزنكيين على ولاية صلاح الدين وقيام الدولة الأيوبية. ثم تم عرض معركة حطين، وحصار القدس الذي استمر 12 يوما، وخُتم العمل بسجدة النصر في الأقصى.
تضحيات كبرى للفتح
حرص فريق الكتابة والإخراج على تقديم إسقاطات واضحة بين ما يحدث في غزة، وما عُرض في العمل. فقد بدأ عرض المسلسل بعد “طوفان الأقصى” بشهر تقريبا، وشهد الموسم الأول هجمات صليبية على عسقلان وغزة، حيث ظهرت مشاهد لقتل وهدم منازل وحصار وإبادة تقابلها مقاومة وصمود، في صورة قريبة جدا مما يشهده القطاع من عدوان.
في الحلقات الأخيرة، خاصة مع معارك الكرك والقدس، استشهدت شخصيات قريبة جدا من صلاح الدين: ابن أخيه (تراب) في الكرك، أمه وزوجة أخيه في رحلة الحج، وأخوه الشجاع بوري، ثم ابن أخيه (علي) في معركة حطين.
المشاهد بدت وكأنها مأخوذة مباشرة من الواقع؛ من عائلات شهداء مثل عائلة يحيى السنوار، والدكتور زكريا السنوار، وقادة آخرين مثل إسماعيل هنية، ومحمد أبو ضيف. جميعهم قدموا أغلى ما يملكون في سبيل التحرير، وهي رسالة محورية في العمل: أن طريق الحرية يمر بالتضحية.
وقد عبرت الطبيبة الغزاوية آلاء النجار عن هذه المعاني عندما استُشهد 9 من أبنائها بقولها: “هم أحياء عند ربهم يُرزقون”، وهي الجملة نفسها التي قالها إسماعيل هنية عند استشهاد أبنائه وأحفاده.
وحدة الأمة بداية التحرير
في مشهد مؤثر قبيل معركة حطين، يقول صلاح الدين:
“نحن هنا من كل أنحاء العالم الإسلامي: من الشام، القاهرة، حلب، الموصل، المغرب، أورفا… قادة وجنود من كل الأمة. بهذه الوحدة يتحقق النصر.”
هذه هي الرسالة الثانية للعمل: الوحدة الإسلامية سبيل النصر. صحيح أن واقع الأمة الآن مفتت، بل داخل القُطر الواحد نفسه، لكن الرسالة واضحة: لا تحرير للقدس دون وحدة.
ويختم بطل العمل برسالة رمزية: “الطريق نحو تحرير القدس يبدأ بالسجود لله والوحدة”.
ختام مؤثر
بدت الحلقة الأخيرة وكأنها فيلم سينمائي يمتد لساعتين ونصف، بإيقاع سريع ومشاهد مشوقة وكثيفة. ومع غياب المسلسل عن الموسم المقبل في أكتوبر، نخسر عملا مميزا تاريخيا ودراميا، رغم تحقيقه نجاحا لافتا على منصات المشاهدة الإلكترونية وبين الجمهور العربي.
وقد نشر فريق العمل رسالة وداع للجمهور قالوا فيها: “لقد انطلقنا لنروي قصة حلم وكفاح. تتبعنا في كل مشهد آثار التاريخ، وعبّرنا في كل جملة عن عدالة ورحمة وشجاعة السلطان صلاح الدين. نتقدم بخالص الشكر لكل من رافقنا في هذه الرحلة، وفي مقدمتهم مشاهدونا الأعزاء.”