الممنوعون من الوطن.. متى يأتي العيد؟

الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم (منصات التواصل)

يفترسني الخجل إذا جاءتني رسالة معايدة من ذوي صديق مقيد الحرية أو من أصدقاء يقيمون بعيدا عن أوطانهم في مناف اختيارية في الظاهر لكنها إجبارية في الواقع.

أحيانا أفتقد الطاقة على الرد، فالغائبون والمغيبون ممنوعون من ملامسة تراب أوطانهم لأسباب بعضها يمكن تفسيره بالقانون المحلي أو الدولي أو الأمن أو الخطر المقيم، وبعضها لا يستند على قاعدة سوى أن الظروف الداخلية والخارجية غير مواتية ولا حل سوى التقلب على جمر الانتظار.

تهنئة.. لماذا؟

أصبحت الأعياد مناسبة مثالية لاجترار الشجن وتناول الأحزان على موائد الوطن، إذ يبدو إرسال التهاني بالنسبة لي عملا يتسم بالنفاق والتقية خاصة إذا اضطررت إلى إرسال تهنئة باردة لأصدقائي البعيدين أو لذويهم من كلمتين “عيد سعيد”، وأنا أعلم يقينا أنه ليس عيدا وأنه غير سعيد.

قاسية هي الأيام إذا ارتضت أن تحمل في ثناياها الأعياد والمحافل ومرافئ البهجة دون أن تصطحب معها أملا أو ضوءا ولو خافتا في نهاية النفق يبشر بعودة الغائبين، وانعتاق المقيدين خلف الأسوار، وهبوط المحلقين بذعر خارج الحدود، وتوقف الراكضين بعيدا عن مكامن الخطر، واستراحة المطاردين من الأنظمة، وظهور المتوارين وراء الأقنعة والألثمة.

ثقيلة هي الأيام عندما تمر دون فرصة ولو عابرة لدفء الأحضان والعناق الطويل والانكباب على الأيدي والأوطان بعزة التقبيل بعد قساوة التكبيل.

بعيدا عن الأب

كيف تأتي الأعياد وهناك أب شب أبناؤه بعيدا عن عينيه، وعن فعل يديه، فغادروا المهد إلى الطفولة أو انتقلوا منها إلى المراهقة أو انزلقوا في ثنايا الحياة يعاركونها، ويتلقون ضرباتها دون فرصة لجوء إلى الحصن أو اتكاء على السند أو استشارة للمرجع، أو اطمئنان لرأي هو الفيصل، مهما تزاحمت الآراء.

كيف تأتي الأعياد وهناك أب ليس لديه أمل أو فرصة لأن يضم ابنه أو يحتضن ابنته أو يلثم يد أمه وأبيه أو يمس شعر امرأته وطفلته مربتا ومهدهدا، بعد أن افتقد الجميع لسنوات.

من المحيط إلى الخليج

لا يقتصر الأمر على وطن واحد في عالمنا العربي، بل إن الخطب ممتد من بلاد الرافدين في العراق إلى بلد المليون شاعر في موريتانيا، ويمتلئ عالمنا العربي بنماذج يشيب لها الولدان، وتدور قصص الفراق من المحيط إلى الخليج مرورا بأرض النيل شمالا وجنوبا، دون بصيص نور أن ظلام البين له نهاية قريبة، ودون حتى نقاش عام يطرح المسألة، ويلوكها لعل أحدا ينتبه من أولي الأمر أن المسكوت عنه في ملفات الغائبين قسرا أو المبتعدين طوعا لا بد أن يطل برأسه مهما انقضى الوقت واستطال الصمت.

المأخوذون بالشبهات

من عجائب الأمور أن كثيرا من المصابين بألم الفراق ونار البعد هم من المأخوذين بالشبهات، ففي أوقات الثورة التي تصطحب معها الفتنة والاضطراب والانفلات ليس هناك وقت لتفحيص أو تمحيص، فالكل متهم وموصوم بجريمة أو دونها حتى إشعارات أخرى.

وإذا أطلقنا مسابقة لتأليف القصص السينمائية أو الروايات الأدبية، وأطلقنا العنان لخيال المتبارين أن يبتدعو المفارقات والمتناقضات وربما المستحيلات التي تقودهم إلى الفوز، فإن أحدا لن يبلغ ما يحويه الواقع من مرارة ووجع يسكن البيوت بتفاصيل مؤلمة لا منطق لها سوى التجبر والتكبر.

ومن حكايات المأخوذين بالشبهات أن مسيحيا أو يساريا معاديا للتيارات الدينية أو شيوعيا يريد سحقهم أصلا متهمون بالانتماء إلى جماعة “إسلامية” من المحظورات، أو تكون التهمة نفسها جاهزة لمن ضُبط يوما متلبسا بالصلاة أو مراودة مسجد، أو ممن ظهرت سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أو حتى كان رأيه مشابها في القول أو متماسا مع رأي فصيل معارض دون أن ينتمي إلى المعارضة بالفعل المعلن أو الخفي.

لم تقتصر المحاسبة على من ارتكبوا جرائم أو أُسندت إليهم جرائم أو من جرى تلفيقها لهم، وإنما شمل الحساب كل من مر بديارهم حتى وإن كان عابر سبيل ولم يقم في خيامهم، ولم يكن أبدا منهم، وكل من أدلى بدلوه في آبارهم، حتى وإن لم يرتو، وكل من وافقهم ذات رأي، حتى لو كان على صواب.

وفي عالم يموج بالصراعات ويتجه نحو التكاتف والتحالف، يبدو عالمنا العربي غارقا في العبث المحلي تماما كما هو تائه في العبث العالمي، دون فرصة لتدبر أو تفكر بوعي أن لملمة الأوطان لن تتم مع بعثرة الأبناء في الداخل والخارج.

في حضرة الأدب

إن رسالة تهنئة من صديق فلسطيني ليس مرغوبا من سلطة بلاده ولا من سلطات الاحتلال وأخرى من صديق مصري يعيش طوعا في الخارج ألقياني لتذكُّر أن المنافي والسجون قديمة في تراثنا العربي، ورغم أن السجن في العصر الجاهلي لم يكن شائعا بمعناه المؤسسي، فإنه بدأ يظهر بشكل أوضح في العصرين الأموي والعباسي، إذ كان يُستخدم أداة للقمع السياسي أو العقاب الديني.

ولأن الشعر هو ديوان العرب وموضع فخرهم الأدبي، فقد كان للمنفى والسجن أثر واضح في الشعر العربي القديم، لكنه كان أقل كثافة مقارنة بالشعر العربي الحديث.

إن ارتيادا لحافلة الشعر العربي سيمر بنا على أبي فراس الحمداني الذي وقع في أسر الروم وكتب قصائد عن أحواله في الأسر تُعرف بـ”روميات أبي فراس”، التي تعكس شعوره بالحسرة والحنين إلى الوطن وأهله، وتفيض بالعاطفة والكرامة والرفض للاستسلام.

ستعرج رحلتنا على أبي العلاء المعري (رهين المحبسين) الذي لم يُسجن فعليا لكنه اعتبر نفسه في سجن الحياة، وبشار بن برد، اللذين كتبا أيضا عن محنة السجن والقيود والمعاناة، وإن اختلفت السياقات بين الديني والفكري والسياسي.

لم يكن المنفى جغرافيا دائما، بل كان أحيانا معنويا أو قسريا من حاشية حاكم أو حماية قبيلة، وسنجد أن المتنبي والأخطل والفرزدق وجريرا استخدموا المنفى رمزا للعزلة والطرد من النعمة، وعبَّروا عن ألم الفقد والغربة بلهجة هجائية أو رثائية.

ولا بد أن نتذكر مأساة الشاعر العباسي ابن زريق البغدادي الذي ارتحل من بغداد إلى بلاد الأندلس، بحثا عن سعة الرزق تاركا زوجة يخلص لها وتخلص له، فاغترب من أجلها لكن التوفيق لم يصادفه، فيمرض ويموت وحيدا بعد أن سجل معاناته مع الغربة والبعد عن الأهل والوطن في أبيات اعتبرها النقاد نموذجا مبكرا لتجسيد قيم الاغتراب ومفارقة الوطن.

إذا انتقلنا إلى الشعر العربي الحديث فإننا بصدد مفارقة لافتة، هي أن قائدا عسكريا وسياسيا وصل إلى منصب رئيس الوزراء معبّرا عن الثورة العرابية، هو محمود سامي البارودي الذي نفاه الإنجليز لمدة 17 عاما إلى جزيرة سيلان التي كانت تُسمى سرنديب، والتي حملت اسم أشهر قصائده (في سرنديب)، والتي كانت أحد تجليات قيامه بتجديد الشعر العربي وريادته لمدرسة الإحياء والبعث.

شعراء في السجن وخارجه

كان السجن موضوعا محوريا في تجارب كثير من الشعراء العرب في العصر الحديث، إذ تحوَّل إلى فضاء للتأمل في الذات، والتمرد على القمع، وتوثيق المعاناة الشخصية والجماعية، ولن يتسع المقام لحديث تفصيلي عن تجارب محمود درويش وسميح القاسم مع سجون الاحتلال الإسرائيلي، أو لتجارب من لم يُسجنوا لكنهم عبَّروا عن مشاعر المسجونين وأوجاعهم مثل فدوى طوقان وأمل دنقل ونزار قباني، أو من تعرَّضوا للسجن والنفي معا مثل عبد الوهاب البياتي ومظفر النواب، أو لشعر العامية القاسي والساخر الذي جسَّده أحمد فؤاد نجم.

تهنئة أخيرة

من المؤكد أننا نستدعي تراثنا الغزير ونحن نتباكى على الأرواح الحبيسة خارج الأوطان، وليس في نخبنا السياسية من يعي أن اعتصام كل الأيادي الوطنية وتجميعها هو أمر واجب ولازم دون إقصاء أو تهميش ودون نزعات الانتقام أو التنكيل، مع عدو يتربص بنا بمساعدة جهلنا وغفلتنا وعدم وضوح رؤيتنا.

يبدو أن تبعات فتح الملفات المغلقة أو المسكوت عنها كبيرة لدرجة أننا حتى ونحن ندرك أن العيد لم يأتِ ولم يزُر الممنوعين من الأوطان، فإننا نكتفي بتهنئة رتيبة لأصدقائنا “عيد سعيد”!

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان