حديث القرآن عن ميراث البنات عند عدم وجود الأخ

 

تناولنا في مقال سابق بعض المراجعات حول قضية ميراث البنات عند الانفراد بالتركة، وعدم وجود أخ أو عاصب ذكر، وهو ما يشتهر في الفقه الإسلامي بمسألة التعصيب، وقد ذكرنا أن المسألة موضع خلاف بين المذاهب السنية والمذهب الجعفري الشيعي، فالمذاهب السنية تعطي هنا البنات إذا كانت واحدة النصف، وتذهب بقية التركة لأقرب ذكر من عصبة الميت، وإن كانت التركة بين بنات أكثر من بنت، وليس لهن أخ، فهنا يأخذ البنات إذا زدن عن واحدة الثلثين، وبقية التركة تذهب لأقرب ذكر من عصبة الميت.

أما المذهب الجعفري فيرى أن البنت مثل الابن في هذه الحالات كلها، فإذا ترك الأب بنتا أو أكثر، فالتركة محصورة فيها أو فيهن، كما لو كان لهن أخ منفرد يرث كل تركة الأب، فهن كذلك يرثن تركة الأب كلها، فلو كانت واحدة فترث النصف فرضا، ويرد عليها بقية ترك الأب وترثها كلها، ولو كانت أكثر من بنت، فيرثن الثلثين فرضا، ويرد عليهن بقية ترك الأب، ولا نصيب للأعمام هنا ولا لأقرب عصبة ذكر للميت.

مجمل أدلة الفريقين:

ومجمل الأدلة التي في الموضوع أن جمهور مذهب أهل السنة جميعهم، يستدلون بحديث: “ألحقوا ‌الفرائض ‌بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر”، وحديث بنتي سعد رضي الله عنه وقد مات أبوهما فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم لهما الثلثين ولأمهم الثمن، والباقي للعم، واستدلوا كذلك بالإجماع على هذه المسألة.

واستدل المذهب الجعفري على ما يقول، بما يلي: أن البنت هي الأقرب إلى الميت ومن ثم فهي أحق بتركته كاملة، والقاعدة عندهم لايورث الأبعد في وجود الأقرب.

وأن كلمة الولد في القرآن تطلق على الذكر والأنثى، ومن ثم فلا داعي للتفرقة بينهما عند انفراد أحدهما بالتركة، فكما يأخذ الولد التركة كلها إذا انفرد فكذلك البنت، مع فارق عندهم أن الولد يأخذها كلها بمقتضى الفرض فقط، أما هي فتأخذها بمقتضى الفرض والرد.

نقاش لأدلة القرآن في الموضوع:

لم يرد نص صريح هنا في إعطاء الذكر أو الأنثى التركة كلها، أو نصفها، فما ورد في ميراث الأولاد هو قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ ‌حَظِّ ‌ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُ) النساء: 11. فهنا مسكوت عنه في القرآن تصريحا، وهو ما جعل الآراء في المذاهب تختلف في دلالات هذا المسكوت عنه تصريحا، بتوضيحه بما ورد في السنة، ولكننا الآن نناقش نصوص القرآن، وسنأتي لنقاش ما استدل به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضوع.

وهذه الآية الكريمة، رغم أن فقهاء السنة ينقل عنهم الإجماع على موقفهم الفقهي من إعطاء البنت النصف فقط إذا انفردت، والثلثين إذا كانت فوق اثتنين، ومع ذلك فقد وجدنا فقيها كبيرا من الصحابة كابن عباس رضي الله عنه يذهب إلى غير ما ذهبوا إليه، فكان يقضي بأن إذا مات الميت وترك بنتين، فلهن النصف، لأنهن ليستا فوق اثنتين، هن ثنتان فقط، وهو ما يعني أن دلالات القرآن الكريم فيما سكت عنه، أو ما يعطي أكثر من مدلول، يتيح للنظر الفقهي التدبر والاجتهاد فيه، ما لم يكن النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

عادات القرآن:

كتب الإمام الطاهر ابن عاشور في تفسيره: (التحرير والتنوير): أن للقرآن عادات، وعلى المفسر أن يعرفها حتى يحسن تدبر آيات القرآن، والاستدلال بها. ومقصوده بعادات القرآن: أي ما اعتاده القرآن في الأسلوب والمعنى، وسياق الكلمات، ومعاني المفردات، في الغالب المعتاد من هذه العبارات والألفاظ. وليس حديثنا عن عادات القرآن هنا كموضوع، بل جلبنا هذا المصطلح لنستدل به على عادة القرآن عند استدلاله بمفردة: (ولد) و(أولادكم)، والتي هي موضع نزاع بين الفريقين في قضية ميراث البنات المنفردات.

دلالة لفظ ولد في القرآن:

من أهم الأدلة التي استدل بها من يرى استحواذ البنات على التركة وحدهم عند عدم وجود العاصب الذكر، دلالة لفظ (ولد) و(أولادكم) في القرآن الكريم، وأنها في عمومها يقصد بها: الذكر والأنثى، وأن إخراج الأنثى من بعض النصوص ليس من القوة بمكان، وقد رد ابن حزم على من فرق بين الأنثى والذكر في لفظ ولد في القرآن الكريم، فقال:

(واحتج من لم يورث أختا مع ابنة ولا مع ابنة ابن بقول الله عز وجل: (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) النساء: 176.

واسم الولد يقع على الابنة، وبنت الابن، كما يقع على الابن وابن الابن في اللغة وفي القرآن – والعجب من مجاهرة بعض القائلين هاهنا: إنما عنى ولدا ذكرا – وهذا إقدام على الله تعالى بالباطل، وقول عليه بما لا يعلم، بل بما يعلم أنه باطل.

وليت شعري أي فرق بين قوله تعالى: (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت) النساء: 176، وبين قوله تعالى: (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم) النساء: 12، وقوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن) النساء: 12، وقوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس) النساء: 11، فلم يختلفوا في جميع هذه الآيات: أن الولد سواء كان ذكرا أو أنثى، أو ولد الولد كذلك فالحكم واحد. ثم بدا لهم في ميراث الأخت أن الولد إنما أريد به الذكر و(ستكتب شهادتهم ويسألون) الزخرف: 19، (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) الأنعام: 150).

ظاهر القرآن والنص:

فهل هناك ما يمنع علميا من الانتصار لهذا الرأي من حيث دلالاته القرآنية؟ ولو لم يقل به جمهور فقهائنا من أهل السنة؟ ما لا يمكن نكرانه أنه إذا كان النص القرآني يعطي مدلولا أو حكما يستفاد من لفظة، تؤيد هذا المدلول أو المفهوم اللغة العربية وسياق النص، فإن هذا الفهم لا ينكر على القائل به، ولو خالف به أفهام السابقين، فما هو إلا فهم ورأي علمي ربما لم يلتفت إليه السابقون، لأسباب لم تتهيأ لهم كما تهيأت لأصحاب هذا الفهم، أو ربما التفتوا إليه لكنه لم يدون ضمن الآراء الواردة، أو لم يلق شهرة وعناية وتأييدا، أو لم تكن هناك حاجة لتأييده.

فقال الإمام الرازي هذه القاعدة المهمة: (بينا في أصول الفقه: أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز). ونقلها نقل المقر لها كل من: سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني في تفسيره، والألوسي في تفسيره.

وكذلك نقلها الشيخ رشيد رضا، وأضاف لها ما يحكمها ويضبطها، فقال في تفسير المنار: (ثبت في الأصول: أنه يجوز للعالم أن يفسر القرآن، ويفهم منه ما لم يكن مرويا عن أحد، بشرط: ألا يخرج بذلك عن مدلولات اللغة العربية في مفرداتها وأساليبها).

بقي ما ورد في السنة النبوية المطهرة حول الموضوع، وقد ورد فيه حديث، وحادثة، ونقاشهما يحتاج مساحة مفردة لأهمية هذه الأدلة، وهو ما نناقشه في مقالنا القادم إن شاء الله.

 

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان