عندما وصلت إلى سوريا بعد 14 عاما من الغياب
مطلوبة لثلاثة أفرع أمنية في نظام الأسد البائد!

عادة حين يصل السوري إلى المطار، ينقبض صدره، وتستحوذ عليه مشاعر الخوف والحذر، فهو لا يعرف ماذا ينتظره بالضبط؟ حتى وإن اتخذ التدابير كلها من أجل مرور آمن إلى البلاد، لكن إن كان مسنودا من قبل شخصية مخابراتية أو شبيح كبير في الدولة يحل مشكلته في فرع التحقيق، حينها يستطيع المغامرة بالدخول مع بعض الخوف، والكثير من الحذر. سقط الأسد، وانتهى ذلك الشعور، وحلّ مكانه شعور الفرح المنقوص، والخوف على الصورة الذهنية التي نحتفظ بها عادة مع ما يرافقها من ترقّب يرتجف له القلب.
الطائرة تستقر على أرض المطار أخيرا. الكآبة هي السمة العامة للمطار، فهو في حال يرثى لها من حيث الخدمات والبناء، واللون الرمادي الذي يصبغ كل شيء، مع ذلك تنتظر العائد مفاجأة ليست بالحسبان، قد يظن أن هناك عرسا، أو استقبالا لشخصية مهمة، لكنه يتفاجأ بأن الاحتفال يخصّه أيضا، فقد استُحدثت عادة استقبال ركاب الطائرة في مدخل المطار بقرع الطبول!
اقرأ أيضا
list of 4 itemsبين القومي والسيبراني.. لماذا احترقت “أعصاب رمسيس”؟
في انتظار جولاني اليمن!
“مها الصغير”.. إذا كان لا بد من السرقة فلتكن لوحة!
هم يحتفلون بالعائدين الذين يحاولون قدر الإمكان أن ينسوا خوفهم القديم، ويرسموا ابتسامة ملتبسة على وجوههم.
فرح منقوص
أربعة عشر عاما مرّت على أحرار سوريا، وهم يعانون من إرهاب الأسد ونظامه، لا يمكن لسوري عانى خلال تلك المدة من كل صنوف العذاب في غربته أن يفرح من أعماقه عندما يرى الخراب العميم على جانبي الطريق قبل أن يصبح في قلب العاصمة، أو في قلب حلب المدينة التاريخية.
الفرح شيء لحظي، يفاجئ الإنسان أول نزوله من الطائرة وتنسمه هواء البلاد التي حرم من رؤيتها طيلة سنوات الثورة، لكن بعد تخطي عتبة المطار سيبحث عن الفرح، ولا يجده! ليس كافيا بالتأكيد ألا يرى السوري صور بشار وحافظ والعائلة الحاكمة في الشوارع ليشعر بالفرح؟ لا يمكن أن يعود إلى وطن مدمر تماما، ولا يجد بيتا يأويه ويشعر بالفرح!
كل الأصدقاء باركوا لي بالعودة إلى الوطن، وبعضهم غبطني على رؤية البلاد التي حكم عليّ نظامها بالنفي والتشرد خلال أربعة عشر عاما، وكنت أظن أن البلاد ستمنحني الفرح غير مشروط.
لم يفاجئني الموظف في المطار حين رفض ختم جواز سفري، لأنه مزوّر! الموظف على ما يبدو غير مؤهل للعمل الذي يقوم به، فقد استعان بمسؤول الأمن في المطار لحل مشكلة الختم. المسؤول الأمني قرأ المعلومات على الحاسوب وشرح له أن جواز سفري نظامي، ومستخرج من السفارة السورية في الكويت، لكن النظام السابق وجّه لي تهمة تزوير جواز سفر، والخروج غير الشرعي من البلاد، لأني ممنوعة من السفر، ومطلوبة لثلاثة أفرع أمنية في نظام الأسد البائد! المسؤول الأمني رحّب بي، في سوريا جديدة أدخلها بأمان رغما عن الأسد.
لكن فرحي بالدخول الآمن كان منقوصا، ومصحوبا بغصة لمرأى الدمار الشامل.
المخدوعون
لا نتحدث هنا عن الفيلم السوري المأخوذ عن رواية “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني، بل عن هؤلاء المخدوعين بسياسة التسوية التي أطلقها نظام بشار الأسد، فلم تُعرف مصائرهم أبدا، دخلوا الجحيم، ولم يخرجوا منه.
أول شيء يتبادر لذهن السوري العائد إلى الوطن صورة “مازن الحمادة” أشهر المخدوعين بالأمان، والتغيير الذي أطلق النظام البائد حملته للقبض على المزيد من الأحرار، وقتلهم في سجونه تحت التعذيب.
لقد صدّق مازن الخدعة ووجدت جثته في سجن صيدنايا، وصدّق مثله الكثيرون الذين لم تُعرف أسماؤهم، ولم يجد أحد جثثهم!
سوريا الجديدة
ليست سوريا الجديدة على مقاس الحلم فهي بلد مُدّمر يعمه الخراب، معظم شعبه يعيش تحت خط الفقر، ما زالت ملامح الناس في الشوارع يطغى عليها البؤس، يتحركون ذاهلين عما حولهم. الغلاء الفاحش، والفقر نسف أحلام البسطاء بعيش كريم. ما زالت البلد المحتضرة غير قادرة على مد يد العون لهم وهي تحتاج العون.
في المناطق “المحررة”، ارتفاع في الأسعار، أزمة سكن خانقة، فقد عاد أصحاب البيوت النازحون من دول العالم المختلفة يريدون بيوتهم التي سكن فيها نازحون آخرون من مناطق “النظام” حسب التسمية قبل التحرير.
لا يقتصر الأمر على أزمة السكن هناك أيضا أزمة مرور بسبب استخدام نسبة كبيرة من الناس للدراجة النارية بدل السيارة، وذلك لرخص ثمنها مما أدى إلى حوادث مرور مؤلمة راح ضحيتها ثمانية عشر شخصا في اليوم الأول والثاني للعيد. في مؤشر خطر دفع الناس للمقارنة بين عدد ضحايا السير، وعدد ضحايا القصف اليومي السابق على محافظة إدلب.
معظم الناس في “المحرر” كانوا يعتمدون في معيشتهم على المساعدات التي تدفعها المنظمات الإنسانية لهم، ويتدبرون باقي الاحتياجات مثل “أجرة البيت” بمزاولة أعمال يدوية متنوعة.
في توقيت نزوح السوريين من الجنوب ووسط البلاد إلى محافظة إدلب ارتفعت أسعار البيوت، وشهدت المحافظة طفرة عمرانية ترافقت مع ارتفاع جنوني في إيجار البيوت.
تعود الآن الأزمة للظهور بعودة السكان الأصليين إلى مدنهم من بلاد الاغتراب، فهم لا يستطيعون إيجاد بيت للسكن وإن وجدوا لا يستطيعون دفع إيجاره المرتفع. العودة سبّبت تضخما سكانيا خانقا في ظل خوف يقبض الصدور من عودة محافظة إدلب إلى الهامش، خاصة وأن وزراء الغفلة على الطرف الآخر مشغولين بالصورة والموقف المُصنّع لأجل “تريند” على مواقع “السوشيال ميديا”.
الناس بدأت بالاحتجاج العلني وإلقاء التهم على السلطة الجديدة بسبب التراخي في تحقيق العدالة الانتقالية. الاحتقان على أشده عند المتضررين من الحرب والذين لم تنصفهم السلطة الجديدة ولم تلتفت إلى حل مشاكلهم التي يعتقدون أن من الواجب أن تكون من أولويات السلطة، وبينما يحتفل الناس بالعيد ويفرج عن شبيحة وقتلة من النظام السابق وتسوى أوضاعهم. يغرق سكان إدلب في التهميش من جديد.