إيران وإسرائيل.. حين تصبح الوثائق أخطر من الصواريخ

في السنة الثانية للهجرة، يوم بدر، وقع الشاعر أبو عزة الجُمَحي في أسر المسلمين، فتقدَّم إلى النبي ﷺ متوسلا، قائلا: اعفُ عني يا محمد، فإن لديَّ بناتٍ يتيمات، فأنعم عليه النبي ﷺ بالعفو بشرط ألا يعود لقتال المسلمين.
لكن الرجل نكث عهده، فعاد إلى مكة يهجو الرسول ﷺ، واشترك في غزوة أُحد ضد المسلمين. وعندما أُسر مرة أخرى، أخذ يتوسل: يا رسول الله، اعفُ عني، عندها ردد النبي الكريم كلمته الخالدة “لا والله، لا أدعك تذهب إلى مكة فتحك ظهرك بجدرانها وتقول: خدعتُ محمدًا مرتين. لا يُلدَغ المؤمن من جحر مرتين”.
“الكنز الدفين”
اليوم يتكرر المشهد نفسه في الشرق الأوسط، إذ استطاع نتنياهو وترامب خداع طهران للمرة السادسة رغم الوعود الأمريكية بمواصلة المفاوضات.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsشهاب.. سائق “التوك توك” مذنب أم ضحية السرد الناقص للكاميرا؟
ماذا يريد بيتر ميمي المخرج المدلل أن يقول؟!
عكس التوقعات.. الذكاء الاصطناعي يبطئ سرعة المبرمجين لهذا السبب
فبعد أن كشفت وزارة الاستخبارات الإيرانية النقاب عن واحدة من أجرأ العمليات الاستخبارية في التاريخ الحديث -حصولها على أرشيف سري يضم تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي وبرامجه العسكرية الحساسة- أصبحت المنطقة على حافة الهاوية.
هذه الوثائق، التي وصفها وزير المخابرات الإيراني إسماعيل خطيب بـ”الكنز الدفين”، لا تقتصر على المنشآت النووية فحسب، بل تشمل أسماء العلماء، وخطط التعاون مع دول غربية، وحتى تقارير إسرائيلية “كاذبة” -حسب البيان الإيراني- ضد البرنامج النووي الإيراني.
جاء هذا الكشف في لحظة حرجة شهدت تصاعدا غير مسبوق للتوتر في الشرق الأوسط، تزامنا مع تحذيرات أمريكية، وإجلاءات دبلوماسية، واستنفار عسكري، ما طرح سؤالا مصيريا: أيسرّع هذا الاختراق ضربة عسكرية ضد إيران أم يصبح ورقة ردع تحمي طهران؟
وبدل أن توظف طهران “الكنز الدفين” -على حد قولها- أذاعت تفاصيله للتفاخر، في سابقة استخبارية غريبة تعلن فيها العملية قبل استثمارها، وظنت أنها بذلك تردع تل أبيب.
خديعة تتكرر
لكن إسرائيل باغتتها بعد أيام قليلة بضربة قوية، فانقضت صواريخها كالجارحة، تغتال علماء الذرة في ضربات دقيقة، وتقصف الطائرات مواقع مهمة ومنصات صواريخ، وتغتال غالبية الصف الأول من القادة العسكريين والحرس الثوري في لحظات، ليُعاد المشهد الذي وقع مع حزب الله في لبنان.
الجميع كان يعلم أن الحلف الإسرائيلي‑الأمريكي سيضرب إيران، لكن طهران لم تستفد من درس النبي ﷺ مع أبي عزة، فإسرائيل لن تسمح لإيران بإكمال برنامجها النووي، وكذلك أمريكا، سواء بدأت إيران الضربة الأولى أم لا، فقد كانت ستُضرَب، لذا كان الأجدى لها أن تسبق.
ورغم أن إيران -للمرة الأولى في تاريخها- ردت سريعا في اليوم نفسه، ولم تضبط النفس كما اعتادت، فقد خسرت كثيرا بالضربة الاستباقية الإسرائيلية وما تلاها، إذ استُهدفت منشآت نووية، منها منشأة أصفهان، وأهداف حساسة أخرى.
وقد أدى الرد المتبادل إلى قصف مواقع مهمة في تل أبيب ومدن إسرائيلية أخرى، مسببا تهدُّم مبانٍ وإصابة إسرائيليين عديدين. ومن المرجَّح أن يستمر تبادل الضربات زمنا يطول أو يقصر، تبعا لتدخُّل الأطراف أو شعور الطرفين بأن المواجهة حققت أهدافها.
مَن الجاسوس؟
لم يأتِ الاختراق الإسرائيلي من فراغ، فقد فجَّر الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد -قبل سنوات- قنبلة بتصريحه أن رئيس وحدة مكافحة التجسس في استخبارات بلاده كان جاسوسا لإسرائيل، وهو من سهَّل سرقة الوثائق النووية التي عرضها نتنياهو.
هذه الفضيحة لا تفسر نجاح تل أبيب في الحصول على أسرار طهران النووية فحسب، بل تشرح أيضا دقة ضرباتها الأخيرة رغم “مناعة” إيران المزعومة: اغتيال العلماء داخل معاقل محصَّنة، واختراق دفاعات “باور” بسهولة، ورصد تحركات القادة بدقة.
استراتيجية إسرائيل واضحة: ضرب الدولة من داخلها عبر شبكات التجسس المزروعة، وتحفيز الشارع الإيراني على الانتفاض ضد نظام منكشف.
سيناريوهات على حافة الهاوية
الرد المتبادل يدفع المنطقة نحو الهاوية، والاحتمالات مخيفة:
- احتواء محدود: تبادل ضربات رمزية عبر الوكلاء (الحوثيون/حزب الله) مع ضغوط دولية للتهدئة.
- اغتيالات مستمرة: تواصل إسرائيل استهداف العلماء تحت غطاء أمريكي.
- انفجار داخلي: احتجاجات إيرانية تستغل عجز النظام بعد انكشاف دفاعاته.
- حرب مباشرة: ضربة إسرائيلية لمفاعل نطنز تغلق مضيق هرمز، فتستدعي تدخلا أمريكيا، يواكبه مسعى أوروبي لـ”تهدئة مقابل تجميد نووي”.
- يختزل المشهد تاريخ الخيانة الداخلية في إيران، إذ سقطت في الفخ الأمريكي-الإسرائيلي ست مرات، وقائمة اغتيال قادتها وحلفائها شاهد على ذلك.
قد يكون الرد السريع الأخير كسر قاعدة “الاحتفاظ بحق الرد”، لكنه كشف هشاشة لا تُغتفر، وأثبتت فضيحة الاختراق أن السكين الإسرائيلي حاد لأن مقبضه في أيد إيرانية. والمنطقة اليوم أمام طريقين: حرب استنزاف يدفع الخليج والمنطقة ثمنها، أو صحوة إيرانية تدرك أن “الضربة الأولى ليست ترفا بل فريضة بقاء”.
فحرب جديدة في الخليج ستكون الكارثة التي لا يريدها أحد، والساعات والأيام المقبلة ستحدد إن كانت المنطقة ستقع في الهاوية، أم تتراجع خطوة تحت وطأة ثمن مواجهة باهظ للجميع.
“مَن يثق بخصمه بعد الخديعة يحفر قبره بيديه”.