غرور القوة وأوهام النصر المطلق

عندما يتحول التهديد المحتمل إلى خصم فاعل!

آثار صاروخ إيراني وقع على أحد المنازل في تل أبيب (رويترز)

جاء العدوان الإسرائيلي على إيران، وأنا أعمل على تطوير نظرية جديدة عن استخدام القيادة الاستراتيجية للقوة، ليشكّل هذا العدوان نموذجًا تطبيقيًّا يزيد القدرة على توضيح أهمية الحكمة والبصيرة والأخلاق في استخدام القوة؛ فعندما يندفع القائد إلى استخدام قوته، فإنه يمكن أن يُدمّر العُمران، ويُبيد البشر، ويملأ الأرض نارًا ودُخانًا يحجب الحقائق.
ولقد اندفع “النتن ياهو” المغرور بقوة أسلحته المتطورة التي حصل عليها من أمريكا، ليوجّه ضربة قاسية لإيران؛ مستخدمًا استراتيجية موشي ديان في العدوان الإسرائيلي على الدول العربية عام 1967.
وما حققه “النتن ياهو” في عدوانه على إيران لا يقل خطورة عن عدوان 5 يونيو؛ فقد تمكّن من قتل مجموعة من أهم القادة العسكريين والعلماء، وتدمير الكثير من المنشآت، ومن أهمها تلك التي يتم فيها تطوير الأبحاث النووية وتخصيب اليورانيوم، وأدى ذلك إلى زيادة غرور “النتن ياهو” وإصراره على تحقيق النصر المطلق، وتغيير النظام في إيران، وفرض الاستسلام الكامل عليها، وهو يتفق في ذلك مع الهدف الذي يريد ترامب تحقيقه.

أصبحت إيران خصمًا فاعلًا!


لكن أهم نتيجة حققها “النتن ياهو” حتى الآن هي تحويل إيران من تهديد محتمل إلى خصم فاعل؛ فمن المؤكد أن إيران لم تكن تريد حربًا مع إسرائيل، وكانت تقدم التنازلات في المفاوضات مع أمريكا، ولذلك تعرضت لخداع إعلامي استراتيجي أدى إلى قسوة المفاجأة التي استغلتها إسرائيل لتدمير قوة إيران، خاصة مواقع دفاعها الجوي.
وكانت إسرائيل تخطط لتحقيق نصر سريع وحاسم، لكنها دخلت في حرب طويلة المدى، وهذا ما أشار إليه الصحفي جيرمي بوب المقرّب من وزارة الدفاع، الذي يرى أن الضربات الإسرائيلية حققت أهدافًا استراتيجية، وعزّزت مكانتها كقوة ردع إقليمية، لكنها تحمل توجهات إلى حرب طويلة متعددة المواسم!
إن هذا يبرهن على حقيقة مهمة يؤكدها التاريخ، وهي أن من يبدأ الحرب لا يستطيع أن ينهيها، وأن من يبني استراتيجيته لتحقيق نصر سريع لا يستطيع أن يتحمّل حربًا طويلة. ولقد برهن العدوان الأمريكي على فيتنام وأفغانستان على صحة تلك الحقيقة، كما اضطرت فرنسا إلى الانسحاب من الجزائر بعد أن أدركت أن استمرار الثوار في استنزاف قواتها يمكن أن يؤدي إلى انهيار فرنسا ذاتها، ولذلك اضطر ديغول إلى الانسحاب ليحمي فرنسا من السقوط.

إنها تملك قوة صلبة ولكن..


والحرب الطويلة تحمل الكثير من المفاجآت غير المتوقعة، والشعوب التي تتعرض للعدوان يمكن أن تبتكر الكثير من الوسائل للدفاع عن وجودها، ولقد تمكّنت إيران من استيعاب الضربة رغم قسوتها، وتعيين قادة جدد، واستخدام أسلحتها لتوجيه ضربات مؤلمة لإسرائيل.

لذلك بدأت مصادر أوروبية متحيّزة لإسرائيل تحذّر من أن إيران بدأت تطوّر طريقة مواجهتها وأساليبها في الردع والهجوم، وأن الضربة يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، فتشجّع على سباق التسلح النووي.
لذلك يجب أن تدرك إسرائيل أن تطوير أسلحة نووية لم يعد صعبًا، وأن العدوان يمكن أن يزيد إصرار إيران على العمل للحصول على هذه الأسلحة للدفاع عن وجودها، وأنها يمكن أن تحصل على مساعدة من دول أخرى مثل روسيا، فالصراعات الكبرى تدفع الأطراف للبحث عن حلفاء، وأمريكا المغرورة بقوتها ستدفع الكثير من الدول إلى التحالف في مواجهتها عندما تشعر بتهديد مصالحها.
إننا يمكن أن نتصوّر سيناريوهات جديدة؛ فإسرائيل تمتلك بالفعل قوة صلبة يمكن استخدامها في حرق الكثير من المنشآت، خاصة النفطية، وقد بدأت ذلك بالفعل، لكن ذلك يمكن أن يشكّل صراعًا استراتيجيًّا طويلًا، وإيران حافظت حتى الآن على تماسك نظامها، وتستطيع أن تعزّز قدراتها العسكرية، وربما النووية، ولا يمكن أن تضمن القوة العسكرية لإسرائيل استقرارًا، بل يمكن أن تتعرض للكثير من الأخطار التي تهدد وجودها.

رأي عام ضد إسرائيل!


هناك مجال آخر يمكن أن نكتشف أن إسرائيل تتعرض فيه لخطر يهدد وجودها؛ فأنا باعتباري أستاذًا للرأي العام أحاول دائمًا أن أكتشف اتجاهات الجماهير، وتأثيرها في الصراع، وخلال الأيام الماضية حاولت أن أتابع وسائل التواصل الاجتماعي، وأعتبر أن التعليقات يمكن أن تشكل عينة عشوائية، وأهم نتائج هذه الملاحظة أن الجمهور العربي تناسى مؤقتًا الخلافات مع إيران، وأنه يتابع ببهجة الصواريخ الإيرانية التي تضرب دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يشير إلى أن الجماهير العربية بالرغم من عدم قدرتها على التعبير بوضوح عن آرائها، فإنها بشكل عام ضد إسرائيل، وأن التطبيع مع النظم فقط، أما الشعوب فإنها تعتبر أن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي العدو الذي يمكن أن تتناسى في مواجهته كل الخلافات مهما بلغ عمقها.
ومن المؤكد أن ما يقوم به جيش الاحتلال من إبادة جماعية لأهل غزة يزيد عداء الجماهير العربية لإسرائيل، وأنه في اللحظة التي تنال فيه هذه الجماهير حريتها، فإن إسرائيل ستتعرض لخطر يهدد وجودها؛ فالجماهير العربية يمكن أن تنحّي الخلافات جانبًا عندما تكون المواجهة مع عدو واضح هو إسرائيل، التي ستصبّ الجماهير غضبها عليها.
وأنا أعتقد أن تلك الحقيقة يمكن أن تشكل مستقبل الصراع؛ فالنتن ياهو المغرور بقوته يستطيع أن يدمّر ويحرق، لكنه لن يحمي وجود دولة الاحتلال في هذه المنطقة.

موشي ديان يندم!


والنتن ياهو لن يتمكن من تحقيق نصر سريع وخاطف ومفاجئ كما فعل موشي ديان عام 1967، ومع ذلك فقد عبّر ديان عن ندمه وخوفه من نتائج هذا النصر على دولة الاحتلال؛ حيث قال: “لقد أعطينا أنفسنا وجبة مسمومة؛ حيث تحولت إسرائيل من دولة صغيرة تحمي نفسها إلى دولة تحتل أراضي شاسعة؛ وهذا التوسع سيجرّ إسرائيل إلى صراع دائم بدلًا من أن يحقق الأمن؛ والحرب تفرض وضعًا جيوسياسيًّا جديدًا يجعل السلام أكثر تعقيدًا”.
وأشار ديان إلى أن النصر العسكري السريع أكسب إسرائيل تعاطفًا مؤقتًا، لكن هذا التعاطف تآكل مع ظهور الاحتلال كواقع دائم. وبذلك أدرك ديان أن الاحتلال سيكون له ثمن باهظ على مستقبل إسرائيل؛ فهل يندم “النتن ياهو” على عدوانه على إيران؟!

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان