ماذا تبقى بيد إيران في حربها مع الكيان؟

مظاهرات في طهران تندد بالعدوان الإسرائيلي وتحمل صورة المرشد الأعلى (الأناضول)

حين بدأ الكيان الصهيوني ضرباته المركزة ضد بعض المنشآت والقيادات العسكرية والنووية الإيرانية، وتمكن من إيقاع إصابات قوية ومباشرة فإنه أراد شل القدرات الإيرانية على الرد، وقد نجح في ذلك لوقت قصير، ثم ما لبثت إيران أن تجاوزت الصدمة، واستجمعت قواها، وبدأت الرد الذي وإن لم يكن مكافئا تماما للعدوان الإسرائيلي إلا أنه مَثّل مفاجأة أيضا بدوره للكيان والقوى الداعمة له، كما مَثّل مفاجأة لكثيرين في منطقتنا.

هذه هي المرة الأولى التي يُضرب فيها العمق الإسرائيلي بهذه الكثافة والدقة في إصابة بعض الأهداف العسكرية وشبه العسكرية، إذ لم تتعرض إسرائيل من قبل لمثل هذه الضربات إلا في العام 1991 عبر الصواريخ العراقية التي لم تصب أهدافا مهمة، وإن أحدثت حالة من الهلع، لكنها كانت محض رشقات قليلة، كما تعرض العمق الإسرائيلي للاستهداف من الصواريخ الفلسطينية بدءا من معركة سيف القدس وحتى طوفان الأقصى ومعها الصواريخ اليمنية، وحتى اللبنانية قبل توقفها لكنها لم تكن بالحجم التدميري، أو دقة التصويب الذي نشهده حاليا من الصواريخ والمسيرات الإيرانية.

الضربات الاستباقية أقوى

في الأمثال العربية (الكف السابق سابق) أي أكثر تأثيرا، ومن الصعب أن يستطيع الخصم رده بالمثل تماما، وصاحب الضربة الأولى أو “الكف السابق” يتمتع بميزة نسبية هي التحضير، سواء بتحديد الأهداف التي يريد ضربها بدقة من خلال معلومات دقيقة عبر جواسيسه والمتعاونين معه (وهم كثر في الحالة الإيرانية)، وعبر تحضير الأسلحة اللازمة لضرب تلك الأهداف، ثم وهذا هو الأهم عبر استخدام الخداع الاستراتيجي حتى يمكنه مفاجأة الخصم.
لقد حدث ذلك من مصر في حرب أكتوبر/تشرين أول 1973، وحدث أيضا في طوفان الأقصى، ثم أخيرا في العدوان الإسرائيلي على إيران فجر 13 يونيو/ حزيران 2025، وإن كان الخداع الاستراتيجي في الحالة الأخيرة مختلفا بعض الشيء، إذ لم يخف الكيان الصهيوني رغبته واستعداده لضرب المشروع النووي والقدرات العسكرية الإيرانية يوما، بل كان يصعد تهديداته بهذا الصدد، لكنه نجح في إخفاء موعد الضرب بمشاركة أمريكية، حيث كانت المفاوضات حول المشروع النووي قائمة، وكانت لها جولة جديدة يوم الأحد 15 يونيو، كما أن نتنياهو سافر إلى أحد المنتجعات الإسرائيلية لقضاء عطلته، وصرح علنا بأنه سيتعامل مع الشأن الإيراني عقب انتهائه من زفاف نجله أفنير الذي كان مقررا له الاثنين 16 يونيو.

لا أنكر أنني استأت شخصيا من عدم الرد الإيراني السريع على العدوان الإسرائيلي، فرغم حالة الخداع التي مارسها الكيان إلا أن مؤشرات أخرى كانت واضحة لعل أبرزها انتهاء مهلة الستين يوما التي منحها ترامب لإيران للانتهاء من المفاوضات النووية، وكذا مطالبة واشنطن لرعاياها بمغادرة إيران والعراق والبحرين وسوريا، وكان من أسباب الأسى أيضا إعلان القادة الإيرانيين أنهم جاهزون تماما للرد على أي عدوان إسرائيلي مفاجئ، وأن لديهم خريطة كاملة بالمنشآت النووية والعسكرية الإسرائيلية التي ستكون في مرمى صواريخهم حال تعرض إيران للعدوان، وقد مر اليوم كاملا بعد العدوان الإسرائيلي دون رد إيراني، لكنه جاء في اليوم التالي ليبدد هذا الاستياء وتلك الشكوك.

مصادر قوة كل طرف

إيران دولة مركزية ذات حضارة عريقة، وسبق أن خاضت حروبا عديدة من قبل، كان منها الحرب مع العراق الذي كان صاحب الضربة الأولى أيضا، وتمكنت قواته من احتلال أجزاء كبيرة من إيران، واستمرت الحرب 8 سنوات (من سبتمبر/أيلول 1980 وحتى أغسطس/آب 1988)، وقد استعادت إيران تلك الأراضي من الجيش العراقي، وأرادت تأديبه على فعلته لكنها لم تستطع، واضطرت في النهاية لقبول وقف إطلاق النار، وقال الخميني مقولته الشهيرة إنه يتجرع السم بتوقيعه ذلك القرار، ورغم طول مدة الحرب إلا أن أيا من الطرفين لم ينتصر على الآخر، فكانت حرب اللامنتصر واللا منهزم، ومع ذلك دفعت الدولتان كلفة عالية مالية وبشرية في تلك المواجهات (نحو مليون قتيل و400 مليار دولار).

في الحرب الحالية ورغم أننا ما زلنا في بدايتها ولا يستطيع أحد التكهن بمدة استمرارها إلا أنها على الأرجح ستنتهي بالنتيجة ذاتها التي انتهت بها الحرب مع العراق- بغض النظر عن أمنياتنا-، فكلا الطرفين الإيراني والإسرائيلي يمتلكان أدوات كافية للإضرار بالطرف الآخر، وهذه الأدوات لا تقتصر فقط على السلاح، لكنها تشمل أيضا العقيدة القتالية والروح المعنوية، وإذا كان الكيان الصهيوني يمتلك خبرة عسكرية كبيرة، وسلاحا أكثر تطورا، وجهاز مخابرات أكثر ذكاء، ودعما دوليا كبيرا خاصة من الولايات المتحدة فإن إيران تمتلك أيضا سلاحا محليا متطورا لم تستخدم بعضه حتى الآن، كما تمتلك عقيدة قتالية صلبة، وتمتلك قدرات أكبر من الصبر والتحمل، واستيعاب الخسائر.

ماذا بيد إيران؟

وإذا كانت إيران لم تستخدم بعض صواريخها الباليستية الأحدث والأكثر تطورا حتى الآن، فإنها لا تزال تملك أوراق أخرى يمكنها استخدامها حسب سياق المعارك، فمن الممكن لها إغلاق مضيق هرمز لتشعل أسواق النفط في العالم، ورغم أنه خيار انتحاري سيكون له ردود فعل قوية ضدها إلا أنها لن تتأخر عن إغلاقه حال اضطرت إلى ذلك ” يا روحي ما بعدك روح”.

في يد إيران أيضا الميليشيات التابعة لها في عدة دول، التي ينشط منها حاليا الحوثيون فقط، ومن الممكن إعادة تنشيط الباقين بمن فيهم حزب الله اللبناني رغم توقيعه على اتفاق وقف إطلاق نار، ورغم أن الدولة اللبنانية ستحاول منعه، لكنه عند الجد لن يهتم باتفاق ولا بتفاهمات مع الدولة، كما أن إيران تمتلك مجموعات غير معلنة في العديد من الأقطار العربية والإسلامية يمكنها توجيهها لضرب مصالح إسرائيلية وأمريكية فيها.

وفوق كل ما سبق فإن إيران قد تعلن امتلاكها السلاح النووي رسميا، بعد التزامها طيلة السنوات الماضية بعدم امتلاك هذا السلاح وفقا لفتوى بتحريم ذلك من المرشد الأعلى خامنئي، وهذه الفتوى قابلة للتغيير الآن إذا ظهرت تقديرات سياسية بتعرض كيان الدولة أو النظام لخطر حقيقي، وقد ألمح بعض المسئولين الإيرانيين إلى ذلك مؤخرا، ولو فعلت ذلك فإنها ستعيد رسم مشهد الحرب، وتربك العالم خشية إقدامها على استخدامه.

في كل الأحوال ومهما كانت الخلافات والمؤاخذات على بعض السياسات والممارسات الإيرانية في المنطقة وكثير منها مؤلم، ولا يندمل بسهولة، مثل قمعها للثورة السورية، وهي السياسات التي نحتفظ بحقنا في رفضها وانتقادها (مع استثناء دعمها للمقاومة الفلسطينية) إلا أنه لا يمكن لأي عربي أو مسلم تمني انتصار الكيان الصهيوني الذي هو عدو للأمة كلها، والذي سيفرض هيمنته التامة على المنطقة حال خروجه منتصرا من هذه الحرب، ليصبح الجميع محض تابعين يأتمرون بأمره، وهذا ما لا يقبله حر.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان