السنة النبوية وميراث البنات المنفردات

ناقشنا في مقالنا السابق، حديث القرآن الكريم عن ميراث البنات عند عدم وجود الأخ، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي بالتعصيب، وهو ما يتعلق بأن البنات لا يحزن التركة كلها، مهما كان عددهن، ما دام لا يوجد لهن أخ يقتسم معهن التركة، بل يأخذن إما النصف إن كانت واحدة، أو الثلثان إن كن فوق الواحدة، وبقية التركة تذهب لأقرب عاصب ذكر، وبينا النقاش الدائر بين المذاهب حول نصوص القرآن في الموضوع، وأنه لا يوجد نص صريح في هذه المسألة، وأن النص الوارد الذي يمكن الاستدلال به على جواز أن يحزن التركة كلها كما الابن، وأن الرأي الذي قال بعكس ذلك عند استدلاله بمجمل القرآن، لجأ لنصوص السنة التي فصلت ما أجمله القرآن الكريم، وهو ما نناقشه في هذا المقال.
حديث: ألحقوا الفرائض بأهلها:
اقرأ أيضا
list of 4 itemsشهاب.. سائق “التوك توك” مذنب أم ضحية السرد الناقص للكاميرا؟
ماذا يريد بيتر ميمي المخرج المدلل أن يقول؟!
عكس التوقعات.. الذكاء الاصطناعي يبطئ سرعة المبرمجين لهذا السبب
أما الحديث الذي يستدل به على عدم استقلال البنات بالميراث عن الأب، فهو عن العصبات، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر”، فمن أخذ بهذا الحديث وهم جمهور العلماء – بل جلهم – يعطي البنت إن كانت منفردة النصف فقط، ويعطي البنتين – أو أكثر – الثلثين، وما بقي من أصحاب الفروض يأخذه أقرب عصبة، سواء كان عما، أو ابن عم، أو أي من الذكور العصبات، حسب الأقرب منهم للميت.
نقاش عند السنة حول الحديث:
وقد دار نقاش حول الحديث، ليس لدى الشيعة فقط، بل عندنا معشر السنة كذلك، فإن الشيعة رفضوا الحديث لعلة تضعيفهم لأحد الرواة وهو (طاوس)، وهو ما يرفض بناء على قواعد الجرح والتعديل عندنا أهل السنة، لكن الحديث تم نقاشه في كتب السنة، سواء من حيث سنده، أو من حيث متنه.
فرأينا من يفسر لفظ الحديث الذي أصبح مأخذا في النقاش، وهي كلمة: (رجل ذكر)، ومنهم من فسر هذه المفردة، فقال ابن هبيرة: (وإنما قال: ذكر، ليعلم أن العصبة إذا كان عمًا أو ابن عم أو من كان في معناهما فكان معه أخت أنها لا ترث شيئًا). وقال الخطابي: (وإنما قال “ذكر” ليعلم أن العصبة إذا كان عما أو ابن عم أو من كان في معناهما وكان معه أخت، أنها لا ترث شيئا). وقال ابن الأثير: وفي حديث الميراث “لأولى رجل ذكر” قيل: قاله احترازا من الخنثى. وقيل تنبيها على اختصاص الرجال بالتعصيب للذكورية.
لكن الإمام السهيلي، وهو من علماء الحديث والسيرة، نظر في الحديث ونقدهم من عدة جهات، سواء من حيث متنه، أو من حيث سنده، أو من حيث عباراته. يقول الإمام السهيلي: (قوله عليه السلام: “ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر”، فهو أصل في الفرائض، وقسم المواريث، وتوريث العصبة الأدنى فالأدنى، إلا أنه حديث فيه إشكال، وتلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا.
والذي تأوله عليه الناس: أن قوله (لأولى رجل ذكر) أي: أقرب الرجال من الميت، وأقعدهم وأن قوله (ذكر) نعت لرجل. وهذا التأويل لا يصح من ثلاثة أوجه:
أحدها: عدم الفائدة في وصف رجل بذكر؛ إذ لا يتصور أن يكون رجلا إلا وهو ذكر، ويجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يتكلم بما هو حشو من الكلام ليس فيه فائدة، ولا تحته فقه، ولا يتعلق به حكم.
الوجه الثاني: أنه لو كان كما تأولوه لنقص فقه الحديث، ولم يكن فيه بيان لحكم الطفل الرضيع الذي هو ليس برجل، وقد علم أن الميراث يجب للأقعد وإن كان ابن ساعة، ولا يقال في عرف اللغة: رجل؛ إلا للبالغ، فما فائدة تخصيصه بالبيان دون الصغير.
والوجه الثالث: أن الحديث إنما ورد لبيان من يجب له الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، فلو كان كما تأولوه لم يكن فيه بيان لقرابة الأم، والتفرقة بينهم وبين قرابة الأب، فبقي الحديث مجملا لا بفيد بيانا، وإنما بعث عليه الصلاة والسلام ليبين للناس ما نزل إليهم). وقد رد ابن حجر وغيره على السهيلي، إلا أن ردودهم – للأسف – هونت وسخفت من كلام السهيلي، ولم يردوا عليه ردا علميا على أهم ما ذكر من مؤاخذات على متن الحديث.
حديث ابنتي سعد:
وأما الحديث المباشر في الموضوع، والصريح في حكمه، فهو الحديث الوارد فيما يتعلق بميراث ابنتي سعد بن الربيع، فعن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: فقال: “يقضي الله في ذلك”، قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: “أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك”.
وفي رواية أخرى: عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق، فجاءت المرأة بابنتين فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله، فلم يدع لهما مالا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقضي الله في ذلك” قال: ونزلت سورة النساء (يوصيكم الله في أولادكم) النساء: 11، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ادعوا لي المرأة وصاحبها” فقال لعمهما: “أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك”.
أما عن سند الحديث ففيه خلاف شديد بين علماء الجرح والتعديل، فقال مخرجو المسند: إسناده محتمل للتحسين، وحسنه الألباني في تخريج سنن أبي داود، وقال الألباني في: (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل): قلت: وهو مختلف فيه، والراجح أنه حسن الحديث إذا لم يخالف. وحسن إسناده حسين سليم أسد في مسند أبي يعلى.
وقال أصحاب موسوعة (المسند المصنف المعلل): إسناده ضعيف؛ عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف، لا يحتج بحديثه، وقد ذكروا أسباب تضعيفهم له، ونقلوا أقوال علماء الجرح والتعديل فيه فقالوا:
(قال علي بن عبد الله ابن المديني، حدثنا بشر بن عُمر، قال: كان مالك لا يَروي عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، وكان يحيى بن سعيد لا يَروي عنه. وقال عباس بن محمد الدُّوري، عن يحيى بن مَعين: عبد الله بن محمد بن عَقيل، ضعيفٌ في كل أَمره. وقال حنبل بن إسحاق، عن أَحمد بن حنبل: ابن عَقيل، منكر الحديث. وقال النَّسَائي: ضعيفٌ. وقال عبد الرَّحمَن بن أَبي حاتم، سأَلتُ أَبي عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، فقال: لَيِّن الحديث، ليس بالقوي، ولا مِمَّن يُحتج بحديثه، يُكتب حَديثُه، وهو أَحب إِلي من تمام بن نَجيح).
وهو حديث كما رأينا اختلف في صحة إسناده، وإن كان الأقوى هنا ضعفه، ومع ذلك ففي متنه وفقهه نظر، فعلى فرض صحة سنده، وهو إن هذا العم أخذ المال كله، وذلك بأحكامهم السابقة في الجاهلية، وبالعرف السائد بينهم، فهل كان فعله صلى الله عليه وسلم هنا سياسة، أم تشريع دائم، حيث تم ترضية الرجل، إذ كيف سيؤخذ منه المال كله، بعد أن حازه كله، فربما كان إعطاء البنات الثلثين، والأم الثمن، والباقي للعم، ترضية له، وهو ما يمكن أن يسير وفق الآية: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) النساء: 8، والعم من ذوي القربى.
هل تأويل هذه الأحاديث مقبول؟
وقد يرفض هذه التأويلات للأحاديث – الواردة في ميراث البنات – رافض، بدعوى أنها واضحة وظاهرة، فكيف يتم تأويلها؟ والحقيقة أن كثيرا من الأحاديث التي وردت في موضوعات شائكة، تم تأويلها، وفي المواريث كذلك، فنجد في باب الوصية للوارث، قد تم تأويلها في الفقه السني والشيعي على حد سواء، فحديث: “لا وصية لوارث”، وجدنا من أولها في السنة، بأنه بقوله: إلا بإذن الورثة. ووجدنا الشيعة يؤولونه بأنه لا وصية لوارث، أي: فيما يزيد عن الثلث.
وفي المواريث، وجدنا حديثا يكاد يجمع في الأخذ به المذاهب الأربعة على قول واحد، وهو اختلاف الدين في الموانع من الميراث، فنجد حديثي: “لا يتوارث أهل ملتين شتى” و: “لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم” يؤول هذين الحديثين ابن تيمية، بأن المقصود بالكافر هنا: الحربي، ولذا رأينا من الصحابة من أجاز أن يرث المسلم الكافر، وهو ما أفتى به مؤخرا المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، بجواز أن يرث المسلم قريبه غير المسلم.