هل تدشن سوريا عصر الليبرالية العربية؟

يتحدث الكثيرون عن خصوصية أهل الشام، فيصورونهم كتجار وصنائعية ميالين إلى العمل والكسب والاعتماد على الجهد الفردي الخاص يرفضون ما يسمى في تونس “بالمسمار في الحيط”.
وهي كناية عن الاعتماد على الكسب القليل الثابت المضمون من الدولة، ويضيف البعض أن حقبة التشرد والمنافي قد دربتهم على المزيد من الاعتماد على الذات، فتجاوزوا الانتظارية والتواكل على الوظيف العام.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsشهاب.. سائق “التوك توك” مذنب أم ضحية السرد الناقص للكاميرا؟
ماذا يريد بيتر ميمي المخرج المدلل أن يقول؟!
عكس التوقعات.. الذكاء الاصطناعي يبطئ سرعة المبرمجين لهذا السبب
لذلك فإن إعادة بناء بلدهم بعد الثورة سيكون بجهد الأفراد والمؤسسات الخاصة أكثر مما يكون بنظام اقتصادي قائم على المؤسسة الاقتصادية العمومية التي تضع الخطط وتشغل وتؤجر تحت اليافطة الموروثة عن حقبة سميت بالاشتراكية العربية.
ويظهر حتى اللحظة أن الحكومة الانتقالية بقيادة الشرع وفريقه الاقتصادي تتجه إلى تحرير الفعل الاقتصادي بتحفيز المبادرات، واستدعاء الشراكات العربية الخليجية خاصة والعالمية بما يسمح بتخيل وضع اقتصادي نصفه الآن بمشروع بناء ليبرالية اقتصادية عربية تحل محل حقبة الدولة الاجتماعية التي زعمت الأنظمة القومية خاصة بناءها لكفالة شعوب فقيرة وتطويرها بالتعليم العام المجاني والصحة المجانية. حظوظ النجاح الاقتصادي والسياسي لهذا النموذج توضع الآن تحت المجهر في الشام وفي الوطن العربي الذي عانى طويلا من وهم الدولة الكافلة.
تجارب الفشل العربي متاحة أمام النظام السوري الجديد.
يرث النظام السوري الجديد خرابا في الإنسان وفي البنيان، وهو وضع مشابه أو مطابق لوضع سوريا فجر خروجها من تحت الاستعمار الفرنسي.
كما يتاح له أن يستفيد بروية من حالات مصر وتونس بعد الردة على الربيع العربي حيث يلاحظ العجز عن الخروج من نموذج الدولة الاجتماعية المشوهة إلى إعادة بناء النموذج الاجتماعي المؤسس أو الخروج إلى نموذج ليبرالي صريح.
يبدو الإنفاق على إعادة الترميم والبناء من الصفر بالإنفاق العمومي هو الأسهل، لكن النتيجة تقريبا مكشوفة سيكون الأمر إعادة إنتاج نموذج اقتصاد البعث (العربي الاشتراكي)، ولكن إيكال أمر الإنسان السوري إلى الفاعل الاقتصادي الخاص سيكون مغامرة سياسية واقتصادية محفوفة بمخاطر كبيرة. هذه المغامرة تفوق في أهميتها وتأثيرها مغامرة الثورة المسلحة وإسقاط نظام دموي، وتتفوق حتما على كل التجارب العربية التي بنيت مند الاستقلال بزعم بناء الإنسان العربي بوساطة دولة كافلة. هنا خطر التأسيس والتجديد وبراعة الابتداع أيضا.
الليبرالية ليست اقتصادية فحسب.
الليبرالية والمبادرة الخاصة والتحرير الاقتصادي مترادفات أطلقت في الوطن العربي منذ نهاية السبعينيات، لكن مسارات التنفيذ انتهت إلى دول تخدم طبقة رأس المال الخاص وتتخلى عن البعد الاجتماعي الذي تأسست عليه، فزادت الفقراء فقرا وصنعت طبقات هجينة. لقد تغافلت عن أن الليبرالية ليست التحرير الاقتصادي فحسب، بل هي باقة كاملة من الحريات السياسية الفردية والجماعية يسير التحرير فيها متزامنا. لقد فتحت عملية التحرير المشوهة بوابات الفساد المالي والاقتصادي ورسخت الدكتاتورية، وكان ذلك هو السبب الرئيس وراء الربيع العربي الذي وضع قضية الحريات على طاولات الحكم.
هذه التجارب الفاشلة متاحة للنظر أمام حكام سوريا الجدد، فإذا كانوا ينوون التحول إلى اقتصاد ليبرالي كما نقرأ ما يفعلون الآن فإن باقة الحريات تكون اللحظة على مكاتبهم، لكن عليهم التقدم على طريق دون نموذج عربي، كما عليهم الوعي بكل الأكلاف الاجتماعية للنماذج الليبراليات الغربية. الأمر لا يقل عن اختراع نموذج سوري خاص.
الحريات التحدي الكبير.
لقد كان من مبررات التسلط والقهر في سوريا هي أن الفسيفساء الإثنية والدينية في سوريا لا تحكم إلا بقبضة من حديد. مع وعي مشوه صنعته كل الأنظمة حتى في المجتمعات الخالية من الطوائف والأعراق مثل تونس أن العربي لا يحكم بالحرية، فهو والديمقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا.
ونقض هذه الفكرة/الأيديولوجيا يحتاج شجاعة تدحضها وتتحمل كلفتها السياسية خاصة في المرحلة الانتقالية لحين إثبات عكسها على الأرض.
فإذا وضعت الحريات العامة كإطار تتعايش فيه الاختلافات في إطار أشمل من الحريات الاقتصادية بما تعنيه من نقص في موارد الدولة التي استعملت للترضيات (الرشوة السياسية)، فإن التحدي يزداد والجهد المطلوب يكون أكبر وأشق على نظام يمتلك شرعية ثورية، ولكنه لا يزال فقيرا إلى الموارد، وثروته البشرية لم ترمم صفوفها بعد.
هنا تحل نماذج التسيير الذاتي أو توسيع صلاحيات الحكم المحلي مقابل هيمنة المركز كبديل ممكن، وهو عمق الليبرالية السياسية والاقتصادية التي وصلت إليه الدول الغربية التي وصلت قبل الجميع إلى تكلّس نماذج الدول الاجتماعية ذات القرار المركزي، وقد كانت تونس على أبواب تطبيقه بدستور 2014 (الباب السابع المتعلق بالحكم المحلي)، لكن خطره على المستفيدين من الحكم المركزي أسقطوا الخطة وأعادوا إنتاج الدكتاتورية باسم الدولة الاجتماعية.
نتطلع إلى نجاح ليبرالي سوري.
يظهر تطلعنا إلى الليبرالية الاقتصادية والسياسية كنوع من العقوق للمدرسة العمومية التي علمتنا كتابة أسمائنا، لكن هذا النموذج وأن أشبع بطوننا فإنه أفقر عقولنا ودمر أرواحنا بحرماننا من حريتنا فهو ساقط في نفوسنا وعقولنا، لذلك نتطلع إلى الوضع السوري متمنين عليه أن يخترع لنا نموذجا جديدا لا يهمل الإنسان، بل يطلق حريته في الفعل الاقتصادي والسياسي والثقافي، فيشبع العقل والبطن ويسمح بالانعتاق من الدوغما (أن العربي لا يحكم إلا بقبضة من حديد).
إن حظوظ النجاح في بناء هذا النموذج البديل كما نراها ليست ضعيفة، لكن الطريق عسيرة وشاقة، ربما تكون الخامة الشامية وقد سمعنا عنها ولم نختبرها مؤهلة بما يزيد في آمالنا التي نبنيها حول التجربة الجديدة، وفي كل حال نحن نتطلع إليها من داخل فشل نماذجنا في تونس ومصر وغيرهما من الأقطار التي زعمت بناء الدول الاجتماعية فحولتها إلى نماذج قهر وتدمير للمواطن الذي لم يبلغ فيها أبدا درجة المواطنة.
سوريا الليبرالية مرسخة الحريات والمواطنة طموح شعبي عربي يراقب سوريا بأمل ويزيد في أعباء من يحكمه. نحن عاجزون دون ثورته المسلحة، ولكننا سنفرح بنجاح ديمقراطي محلي قابل للتصدير/التوريد دون بنادق فاتحة.